بيروت – 17 تشرين الأول/أكتوبر 2025
بعد 6 سنوات على انتفاضة 17 تشرين، تؤكد هيومينا أن أي إصلاح سياسي أو اقتصادي لن يتحقق من دون فضاء مدني آمن وحقوق مصانة في التعبير والتنظيم والتجمع. بين 2019 و2025 تراكمت ممارسات قانونية وأمنية وقضائية ضيّقت المجال العام ورفعت كلفة المشاركة، بينما بقيت المساءلة غائبة أو بطيئة وغير شفافة.
ينطلق التقييد من النصوص قبل أن يظهر في الشارع. فالقوانين القديمة والعبارات الفضفاضة منحت السلطات مجالًا واسعًا لتقييد التجمع والتعبير بذريعة النظام العام، وامتدت القيود إلى الالتفاف على القضاء المختص في قضايا النشر عبر مسارات جنائية وأمنية. والنتيجة أثر ردعي واضح لدى النشطاء/الناشطات والصحافيين/الصحافيات، وتحويل الرأي السلمي إلى مجادلات جزائية تُنهك أصحابها بدل حماية حقهم.
وعندما انتقلت المطالب إلى الميدان، ظهر اتساع الفجوة بين النص والتطبيق. في 01/2021 شهدت طرابلس احتجاجات معيشية أعقبتها توقيفات جماعية واحتجاز من دون تهم واضحة لعدد من المتظاهرين/ات، ما أرسى معالجة عقابية بدل كفالة الحق الدستوري في التجمع. وفي 09/2023 تعرّض مشاركون/ات في مسيرة سلمية ببيروت لاعتداءات من ملثمين، مع تقاعس عن الحماية والتحقيق، ما عزّز الانطباع بأن العنف ضد المحتجين/ات يمرّ بلا كلفة.
وتوازي ذلك تضييقات طالت الصحافة في شقّين متكاملين. ميدانيًا، تعرض صحافيون/ات للضرب وتكسير المعدات أثناء التغطيات. وإجرائيًا، تكررت منذ 03/2025 استدعاءات على خلفية النشر الرقمي ودعاوى قدح وذم باتهامات فضفاضة، مع إحالة نزاعات النشر إلى مسارات خارجة عن محكمة المطبوعات المختصة. كما برزت هشاشة بيئة العمل بفصل صحافية في 01/2025 على خلفية نشاط نقابي داخل مؤسسة إعلامية. هكذا يواجه الصحافي/ة تهديدًا مزدوجًا: تعرّضًا في الميدان، ومسارات إجرائية ترهق حرية النشر الاستقصائي.
وامتد التضييق إلى الفضاء الرقمي بوصفه امتدادًا للمجال العام. رُصدت منشورات نقدية وتكررت طلبات حذف محتوى وتعهّدات بعدم “التكرار”، ما وسّع الرقابة الذاتية وقلّص تداول المعلومات. ومع ضعف حماية الخصوصية وغياب هيئة مستقلة لحماية البيانات، باتت المشاركة الرقمية أكثر هشاشة، خصوصًا مع كلفة الاتصال وانقطاعات الكهرباء وتأثيرها على حق الوصول.
تكتمل الدائرة بغياب مساءلة فعّالة. لم تُرسّخ تحقيقات سريعة ومستقلة وشفافة في القوة المفرطة والاعتقال التعسفي والاعتداءات على المتظاهرين/ات والصحافيين/ات خلال 2019–2025، وتكررت إحالات تُبعد القضايا عن قضاء الاختصاص وتؤخر إعلان النتائج. وعندما يغيب الردع ويُحجب الوضوح، يتحوّل الاستثناء إلى نمط ويخسر المواطن/ة ثقته بالمؤسسات.
سياسيًا، حمل تشكيل الحكومة في 02/2025 خطابًا إصلاحيًا يلامس استقلال القضاء والمحاسبة في القضايا الكبرى. لكن اختبار الجدية يبدأ من الفضاء المدني: حماية التظاهر السلمي، صون حرية النشر والتحقيق الصحفي، صيانة الحق في التعبير الرقمي والخصوصية، وإشراك المجتمع المدني شريكًا في صنع القرار. هنا تتكوّن الثقة العامة، وهنا تُقاس القدرة على الانتقال من وعود الإصلاح إلى وقائع يمكن التحقق منها.
تطالب هيومينا الدولة اللبنانية بـ:
- حماية التظاهر السلمي فورًا عبر تعميم عملياتي مكتوب يضبط استخدام القوة وفق مبادئ الضرورة والتناسب، حظر الاستهداف العشوائي بالغاز والرصاص المطاطي، وضمان عدم عرقلة عمل الصحافيين/ات والمسعفين/ات.
- فتح تحقيقات مستقلة في حوادث 2019–2025 تشمل القوة المفرطة والاعتقال التعسفي والاعتداءات على المسيرات (ومنها وقائع 01/2021 و09/2023)، بإشراف قضاة تحقيق مستقلين، مع نشر خلاصات زمنية للرأي العام.
- صون حرية الصحافة بحصر منازعات النشر بمحكمة المطبوعات ووقف الاستدعاءات الأمنية على خلفية العمل الصحفي، ومنع الانتقام المهني (بما فيه الفصل التعسفي) بسبب المحتوى أو التنظيم النقابي داخل المؤسسات الإعلامية.
- إنهاء الدعاوى الاستراتيجية لإسكات المشاركة العامة (SLAPPs) عبر تعديل مواد القدح والذم لتصبح مدنية بلا عقوبات سالبة للحرية، واستحداث ضوابط لردّ الدعاوى الكيدية وإلزام رافعيها بتكاليفها.
- تحديث الحق في التجمع بالانتقال من الترخيص المسبق إلى الإخطار، وإزالة العبارات الفضفاضة التي تتيح الحظر المطلق، ووضع بروتوكول وطني لإدارة الحشود بالتشاور مع المجتمع المدني.
- تعزيز الاستقلال القضائي والمساءلة بتجريم التدخل السياسي في القضاء، وتفعيل هيئة رقابة مستقلة، مع جداول زمنية للمحاسبة في الانتهاكات الجسيمة ونشر دوريّ للبيانات.
- حماية الفضاء الرقمي والخصوصية بإلغاء تجريم التعبير السلمي عبر الإنترنت، حظر المراقبة غير المشروعة، إنشاء هيئة مستقلة لحماية البيانات بسلطات تحقيق وإنفاذ، وتدابير عملية لمواجهة العنف الرقمي.
- إشراك المجتمع المدني منهجيًا عبر آليات تشاور مؤسسية دائمة في الإصلاحات القانونية والقضائية والاقتصادية، مع مؤشرات أداء قابلة للقياس ومواعيد نشر دورية للتقدّم.
الإصلاح يبدأ من الفضاء المدني. حين تُحمى الحقوق في الشارع وغرف التحرير والمنصات الرقمية، يعود المواطن/ة شريكًا لا متهمًا، وتستعيد الدولة ثقة ناسها ويغدو التعافي ممكنًا وقابلًا للقياس