ما الذي يحدث حين يُغلَق الميدان وتُفتَح الشاشة؟
كيف تحولت شوارع الهتاف إلى ساحات صامتة يُدار فيها الاحتجاج من خلف شاشات مضيئة؟
في العقد الأخير، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انتقالًا ملحوظًا في بوصلة الاحتجاج والنشاط السياسي من الميادين والشوارع إلى منصات الفضاء الرقمي. إبان ثورات عام 2011 – المعروفة بالربيع العربي أو الربيع الديمقراطي، لمع دور وسائل التواصل الاجتماعي كأداة تعبئة وتنظيم وتواصل غير مسبوقة. وقد لخّص أحد الناشطين المصريين آنذاك هذا الدور بقوله: “نستخدم فيسبوك لتحديد موعد المظاهرات، وتويتر للتنسيق، ويوتيوب لإيصال صوتنا للعالم”. ورغم أن منصات التواصل لم تكن الشرارة الأصلية للاحتجاجات، إلا أنها مكّنت الناس من توثيق الانتهاكات ومشاركة المعلومات على نطاق واسع، وإسماع العالم أصوات المحتجين بصورة غير مسبوقة. أدرك الشباب والشابات قوة هذه الأدوات الرقمية في كسر حاجز الخوف وتحدي الرقابة المفروضة على الإعلام التقليدي، فتحولت الهواتف الذكية إلى ما يشبه مكبرات صوت محمولة تنقل هتافات الشارع إلى الفضاء السيبراني.
رقابة بنكهة رقمية: حين انتقل القمع إلى الإنترنت
هذه النقلة من الشارع إلى الشاشة جاءت محمّلة بتحديات جسيمة. فمن جهة، سارعت الأنظمة الحاكمة إلى تحجيم الفضاء الرقمي كامتداد لساحات الاحتجاج التقليدية. ففي خضم تصاعد دور الإنترنت في الحشد، شهدنا أنظمة تقطع خدمات الشبكة بشكل متعمد لإخماد الحراك. المثال الأبرز كان في مصر خلال ثورة يناير 2011، حين قامت السلطات بـ«إيقاف» الإنترنت بالكامل واعتقال المدوّنين في محاولة يائسة لخنق صوت المحتجين. وبعد بضع سنوات، كررت السودان الأسلوب نفسه خلال ثورة 2018-2019؛ حيث حجبت السلطات منصات التواصل الاجتماعي عدة مرات ثم نفذت قطعًا شاملًا للإنترنت بالتزامن مع حملة قمع دموية للاعتصامات في يونيو 2019، وسُجلت، بحسب منظمة Access Now ، كواحدة من أكبر حالات حجب الإنترنت عالميًا. أظهرت هذه الإجراءات أن الأنظمة تنظر إلى الفضاء الرقمي كساحة معركة جديدة ينبغي السيطرة عليها لكبح أي تهديد سياسي.
وبالتوازي مع قطع الإنترنت، سُنّت قوانين فضفاضة تُوظَّف لقمع حرية التعبير الرقمي. تحت ذرائع مكافحة الجرائم الإلكترونية أو محاربة الإرهاب الإلكتروني، اعتمدت العديد من حكومات المنطقة تشريعات غامضة التعريف لتحويل النشاط السياسي السلمي على الإنترنت إلى جريمة يعاقب عليها القانون. فقد باتت تهم مثل “نشر أخبار كاذبة” أو “التحريض على الفتنة” أدوات جاهزة الاستخدام لتجريم أي معارضة إلكترونية. على سبيل المثال، استحدثت الأردن في 2023 قانونًا للجرائم الإلكترونية يُجرّم ما يُسمى بـ”إشاعة الأخبار الكاذبة” و”إثارة النعرات” على الإنترنت؛ وهي مصطلحات مطاطة يمكن أن تشمل أي انتقاد للسلطات. وفي السعودية أيضًا جرى توظيف قوانين الإرهاب والجرائم السيبرانية لمحاكمة النشطاء الإلكترونيين لمجرد تغريدة أو منشور. أما مصر، فبعد أن جرّمت فعليًا التظاهر في الشوارع بقانون التجمهر لعام 2013، استعانت أيضًا بقانون الجرائم الإلكترونية لعام 2018 لملاحقة مَن تبقّى من الأصوات المنتقدة على الانترنت. وهكذا أصبحت المواد القانونية الفضفاضة سيفًا مسلطًا يهدد أي نشاط رقمي معارض، حيث يستخدمها المستبدون لتحويل المعارضين إلى “مجرمين” بمجرد كبسة زر.
كما توسع القمع الرقمي ليشمل أساليب أكثر تعقيدًا تتجاوز الإطار القانوني. فقد طوّرت الأنظمة ما يُعرف بـ”عدة القمع الرقمية” التي تتضمن المراقبة الإلكترونية المكثفة، واختراق حسابات الناشطين، وحملات التشهير الممنهجة، وجيوشًا إلكترونية لبث الدعاية المضادة أو المعلومات المضللة. يؤكد خبراء الأمن السيبراني ومنظمات الحقوق الرقمية ازدياد حوادث التجسس على المعارضين عبر الإنترنت واستهداف أجهزتهم الشخصية ببرمجيات خبيثة. حتى الناشطون في المنفى لم يسلموا من هذا البطش الإلكتروني العابر للحدود؛ إذ باتت الحكومات السلطوية توظّف الإنترنت لملاحقة منظمات المعارضة والجاليات الناشطة في الخارج من خلال التجسس على اتصالاتهم وتهديدهم وابتزازهم عائليًا. يقول أحد الصحفيين الإيرانيين في المنفى: “لا يكاد يمر يوم دون أن أجد رسالة تصيّد إلكتروني في بريدي” – في إشارة إلى وابل محاولات الاختراق التي يتعرض لها هو وغيره. وتهدف هذه التكتيكات إلى إشاعة الخوف وبث الشكوك وسط المجتمعات الناشطة رقميًا، ودفع المعارضين إلى الرقابة الذاتية والصمت تحت وطأة الضغط المستمر.
المحتوى تحت الحصار: شركات التكنولوجيا في مرمى الانتقاد
إلى جانب بطش الدول، يواجه المحتجون الرقميون تحديًا من نوع آخر يتمثل في تضييق شركات التواصل الاجتماعي ذاتها على المحتوى السياسي والمعارض. فبعد سنوات من الاحتفاء بدور مواقع مثل فيسبوك وتويتر في تمكين حركات الربيع العربي، بات نشطاء كثر يشتكون مما يصفونه بازدواجية معايير تلك المنصات حيال محتوى حقوق الإنسان في المنطقة. على سبيل المثال، أطلق ناشطون سوريون حملة في 2020 للاحتجاج على قيام فيسبوك بحذف آلاف الحسابات والصفحات التي وثّقت جرائم حرب النظام السوري منذ 2011 بذريعة “مكافحة المحتوى الإرهابي”. وبالمثل، شكا السوريون من أن يوتيوب حذف تسجيلات توثق الفظائع المرتكبة في الحرب، بحيث وُصِف الأمر بأنه محاولة لمحو جزء من ذاكرتهم التاريخية الرقمية. وفي الأراضي الفلسطينية، كثيرًا ما وجدت المنشورات المناصرة للقضية الفلسطينية أمام مقص الرقيب الخوارزمي؛ إذ تمّ تعليق عشرات حسابات الصحفيين والنشطاء الفلسطينيين على فيسبوك في حملة واحدة عام 2020، كما أوقف تويتر حساب شبكة إخبارية فلسطينية معروفة بذريعة واهية تتعلق بمزاعم صلة بالإرهاب. وتعبّر الناشطة المقدسية منى الكرد عن هذه المفارقة بقولها إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت “الوسيلة الوحيدة المتبقية لإيصال صوتنا وجلب الانتباه لقضيتنا” في ظل تكميم الأفواه الأخرى، “فكل منشور وتغريدة وفيديو يُحدِث فرقًا ويصل إلى جماهير عريضة حول العالم”. ومع ذلك، تُقرّ منى الكرد وغيرها بأن هذه المنصات التي وُصفت يومًا بأنها ساحات للتحرر أضحت أحيانًا جزءًا من المشكلة عبر حجبها للمحتوى الفلسطيني والحقوقي، في ظاهرة «الأبارتهايد الرقمي» ، وهو توصيف استخدمته منظمات مثل العفو الدولية لوصف تحيّز الخوارزميات ضد المحتوى الحقوقي الفلسطيني.. وهكذا يجد الناشط الرقمي نفسه بين فكي كماشة؛ تضييق حكومي من جهة، وسياسات غير شفافة للشركات الكبرى من جهة أخرى، وكلاهما يُفضي إلى إسكات الأصوات الناقدة أو الحد من انتشارها.
“غرف الصدى”: التحدي الداخلي للناشطية الرقمية
علاوة على ما سبق، يبرز تحدٍ داخلي يواجه الناشطية الرقمية ذاتها يتمثل في ظاهرة “غرف الصدى” وآثار الخوارزميات التي تحصر المستخدم في فقاعته الفكرية. فمن خلال تصميم منصات التواصل لجذب الاهتمام بأي ثمن، غالبًا ما يتلقى المستخدم – والناشط ليس استثناءً – محتوى يوافق ميوله ويردّد وجهات نظره الخاصة، مع تهميش الأصوات المخالفة. وبهذا تتحول وعود الإنترنت كمجال مفتوح للحوار وتبادل المعلومات إلى واقع معاكس يعيد إنتاج الانقسامات المجتمعية بشكل أكثر حدة. إن الضحية الأولى لغرف الصدى هي التنوع وحرية التعبير؛ حيث “تعيد هذه الغرف إنتاج المساحات المنغلقة وتزيدها انغلاقًا وتطرفًا، وتقمع ممارسة الناس لحرية التعبير وتحدّ من إمكانية وصولهم إلى المعلومات المخالفة لآرائهم” وتُظهر دراسات تحليلية أن منصات التواصل تعزز الميل لتكرار المواقف المتقاربة، مما يقلل من فرص الحوار النقدي الحقيقي. وفي السياق السياسي، قد ينحصر الناشطون الرقميون في تفاعل مستمر مع جمهور مقتنع سلفًا بمطالبهم، دون نجاح في اختراق الفئات الأوسع أو إقناع الشرائح المحايدة؛ مما يقلل الأثر العملي لحملاتهم ويحوّلها أحيانًا إلى ما يشبه الحوار الداخلي. كما أن الاستقطاب الرقمي قد يُكسب السلطات ذريعة لشيطنة تلك الحراكات ووصفها بأنها مجرد مجموعات مغلقة لا تمثل الرأي العام الحقيقي.
أدوات رقمية… تكتيكات جديدة
على الرغم من هذه التحديات الجمّة، أثمرت الناشطية الرقمية عن مزايا وأدوات فعالة غيّرت مشهد العمل السياسي المعارض في المنطقة، ووفّرت بدائل جديدة للعمل الجماعي والتضامن تتجاوز قيود الواقع المفروض. ولعل أبرز ما قدمته المنصات الرقمية هو سرعة التعبئة والحشد على نطاق واسع وغير مركزي. فبضغطة زر واحدة، يمكن أن يصل النداء إلى الآلاف في دقائق معدودة، متجاوزًا الحواجز الجغرافية وخوف التنظيم الهرمي. شهدنا مثلًا كيف استطاع محمد علي، مقاول مصري مُقيم بالخارج، عام 2019 أن يُشعل احتجاجات نادرة في مصر عبر سلسلة مقاطع فيديو اتهم فيها القيادة بالفساد؛ وما هي إلا أيام حتى انتشر وسم يدعو للنزول إلى الشارع، وتظاهر الآلاف فعلًا في القاهرة والإسكندرية وغيرها قبل أن تواجههم قبضة أمنية شرسة. ورغم قمع تلك الاحتجاجات سريعًا، أثبتت تلك الحادثة أن شرارة الرقمية قادرة على كسر حاجز الصمت وإرباك السلطة، ولو مؤقتًا، عبر تعبئة خاطفة وسريعة قد تفاجئ الأجهزة الأمنية. وبالمثل، في لبنان عام 2019، بدأت التحركات الشعبية بُعيد إعلان ضريبة على تطبيق واتساب؛ فانتشرت الدعوات للاحتجاج كالنار في الهشيم عبر مجموعات فيسبوك وواتساب وتويتر، لتنطلق تظاهرات غير مسبوقة عمّت كافة الطوائف والمناطق بشكل عفوي وغير مركزي. لقد أظهرت تلك الموجة أن التواصل الفوري أتاح للناس استغلال فرصة الغضب الجماهيري وتحويلها إلى حراك فعلي على الأرض قبل أن تبرد جذوة السخط.
لم يكن هذا التحول رقميًا في الوسيلة فقط، بل استراتيجيًا في جوهر التنظيم ذاته؛ فقد انتقل الحراك من هياكل هرمية إلى أشكال أكثر لامركزية ومرونة. لم يعد الزعيم الكاريزمي في قمة التظاهرة هو المصدر الوحيد للحشد، بل أصبحت المنصة الرقمية هي القائد الجماعي، وأصبح الجميع لاعبًا ومنظمًا في آنٍ واحد. هذه البنية المبعثرة شكلت تحديًا للأجهزة الأمنية التي اعتادت استهداف القيادات التقليدية لإخماد الاحتجاجات، فبات من الصعب “قطع رأس الحراك”، لأنه ببساطة… بلا رأس.
إلى جانب الحشد السريع، برزت المناصرة الرقمية وحملات الوسوم كأداة ضغط جديدة وفعالة. أصبحت علامة الهاشتاغ أو الوسم (#) بمثابة راية يلتف حولها المناصرون لقضية معينة، فيساهم انتشارها في جذب انتباه الإعلام وصانعي القرار. فعلى سبيل المثال، لعب وسم مثل #أنقذوا_حي_الشيخ_جراح دورًا محوريًا في مايو 2021 في تسليط الضوء عالميًا على عمليات التهجير القسري في القدس؛ إذ انتشر الوسم عبر دول متعددة ولغات مختلفة، مما ولّد زخمًا إعلاميًا ودبلوماسيًا غير مسبوق لصالح القضية الفلسطينية آنذاك. وكذلك الأمر مع حملة #أنا_زادة في تونس التي شجعت آلاف النساء على البوح بتجارب التحرش والعنف الجنسي عام 2019، مستلهِمةً روح حركة #MeToo العالمية لكن بطابع محلي جريء. وشهدت سياقات أخرى محاولات مشابهة استثمرت الوسوم الرقمية لطرح قضايا مخفية في الفضاء العام، ما ساهم في خلق حوار مجتمعي واسع. هذه الحملات أظهرت كيف يمكن للسرد الرقمي المبتكر أن يكسر المحرمات ويغيّر الأجندة العامة: فبفضل قوة الانتشار والتفاعل، تحولت قضايا كانت مسكوتًا عنها إلى حديث الساعة، وأجبرت السلطات على التعاطي معها تحت ضغط الرأي العام المتشكل رقميًا.
من التوثيق إلى المحاسبة
من المزايا الحاسمة للناشطية الرقمية قدرتها على توثيق الانتهاكات لحظة بلحظة ونقل الحقيقة مباشرةً. فلم يعد بإمكان منتهكي الحقوق العمل في الخفاء كما في عقود سابقة؛ فكل مواطن يحمل هاتفًا أصبح صحفيًا ميدانيًا محتملاً ينقل ما يحدث حوله إلى العالم في بث حي أو عبر فيديو مُسجَّل. وقد رأينا خلال السنوات الماضية كيف ساهم هذا التوثيق الفوري في محاسبة المتورطين وكشف الروايات الرسمية الكاذبة. فعلى سبيل المثال، أثناء الاحتجاجات العربية الأولى، وثّق ناشطون بهواتفهم حالات عنف مروّعة ارتكبتها قوات الأمن وانتشرت المقاطع على يوتيوب، مما “زاد وعي العالم، خصوصًا العربي، بما كان يحدث على الأرض في مصر” وسوريا واليمن وغيرها. وفي لبنان، انتشرت عام 2015 مقاطع تُظهر قمع الأمن لمتظاهري حملة “طلعت ريحتكم” المناهضة لأزمة النفايات، فعجّل ذلك بفتح تحقيقات – ولو شكلية – تحت الضغط الشعبي. أما في سياق أكثر خطورة، فقد كان لتوثيق الجرائم عبر الإنترنت دور محوري في تحقيق العدالة الدولية: إذ جمعت منظمات يقودها ناشطون سوريون في المنفى مئات آلاف الصور ومقاطع الفيديو التي تثبت التعذيب والانتهاكات بسجون النظام، وقدمتها لمحاكم أوروبية، مما أدى مؤخرًا إلى أول إدانة لمسؤول سوري في محكمة ألمانية بجرائم ضد الإنسانية. هذا المثال يبرز كيف تحولت الكاميرا الهاتفية إلى أداة للمساءلة تتخطى حدود الدول؛ فالتسجيل الرقمي بات أرشيفًا للذاكرة الجمعيّة وشاهدًا يصعب طمسه – حتى مع مساعي الأنظمة لمحو الأدلة كما فعلت بحذف الفيديوهات – إذ يظهر دومًا من يحتفظ بنسخة ويعيد نشرها.
التضامن عابر للحدود
لم تقف تأثيرات الناشطية الرقمية عند توثيق الانتهاكات محليًا، بل امتدت إلى خلق تضامن عابر للحدود بين الشعوب والقضايا. فقد سهّل الفضاء الإلكتروني تواصل النشطاء العرب مع بعضهم البعض ومع مناصرين دوليين، فكسروا بذلك عزلتهم القطرية ووجدوا دعمًا معنوياً ومادياً يتخطى الحدود الجغرافية. شهدنا في انتفاضات السودان والجزائر عام 2019 مثلًا تضامنًا لافتًا من ناشطين في دول عربية أخرى؛ حيث انتشرت شعارات ورسومات من ثوار الجزائر في ساحة الاعتصام بالخرطوم، وبالمقابل رفع المتظاهرون في الجزائر أعلام السودان ولافتات تحيي نضال السودانيين. وعلى المنوال نفسه، كانت الحملات الرقمية الفلسطينية – خاصةً في الشتات – مدعومة بتضامن واسع من نشطاء في المنطقة والعالم، الأمر الذي زاد الزخم والضغط على الحكومات. وتصف إحدى الناشطات الفلسطينيات هذا الترابط بقولها: “نحن نصل من خلال منشوراتنا إلى جماهير الشعوب وإلى الحكومات حول العالم”، إذ بات وسم من غزة أو دمشق أو بيروت قادراً على أن يتصدر ترند عالمي ويحرج صانعي القرار في العواصم الكبرى. ومما عزز فعالية هذا التضامن الإلكتروني أنه ترافق مع انخراط الجاليات العربية في المهجر في حركات الدعم، فنظّموا احتجاجات متزامنة واستغلال الوسوم ذاتها، كما رأينا في مظاهرات تضامن مع غزة وحي الشيخ جراح امتدت من سيدني إلى لندن إلى نيويورك. لقد أذابت التكنولوجيا الفواصل الزمنية والمكانية ليصبح الفضاء الرقمي ميدانًا عالميًا مشتركًا للنضال يرفع فيه كل فرد صوته من حيثما كان.
وبفضل هذا التشابك الرقمي والتدفق الحر للمعلومات، تمكنت حركات المعارضة من ممارسة ضغط سياسي وإعلامي حقيقي على الحكومات لم يكن ليتحقق بوسائل تقليدية. فأضحى رأي الشارع الإلكتروني عنصرًا يحسب له القادة ألف حساب، خاصة عندما يتحول إلى عناوين تتصدر الصحف ونشرات الأخبار. وقد دفعت حملات الوسوم العديد من وسائل الإعلام إلى تعديل سرديتها أو تغطية قضايا كانت مغفلة. وتوضح إحدى الدراسات أن نشاط الوسوم يمثل فرصة تحويلية لـ”ضخ سرديات جديدة أو تغيير طريقة تناولنا للأمور” في الإعلام السائد. رأينا تجليات ذلك في حملة التضامن الواسعة مع عمر الراضي الذي اعتُقل عام 2019 بعد تغريدة وانتشرت عبر هاشتاغ #FreeRadi، ما أثار موجة ضغط دولي أدّت إلى إطلاق سراحه لاحقًا بعفو ملكي. قدرة النشطاء الرقميين على فرض أجندتهم على الرأي العام عبر ضغط إعلامي متواصل أتاحت لهم انتزاع تنازلات لم تكن ممكنة في السابق؛ من إطلاق سراح معتقلين هنا، إلى سحب قانون مقيد هناك، أو حتى مجرد خلق نقاش مجتمعي واسع حول قضايا جوهرية.
السرد كفعل مقاومة
أفرزت ساحة الناشطية الرقمية ابتكارات في التكتيك والسرد عززت مناعة الحركات ومكنتها من المناورة رغم تضييق الخناق. فقد دفع التضييق الإلكتروني النشطاء إلى تطوير أدوات بديلة لحماية تواصلهم ووجودهم على الإنترنت، فانتشر استخدام تطبيقات مشفرة للشات وتنظيم الحملات عبر منصات لامركزية أو أقل خضوعًا للرقابة. وأظهر النشطاء براعة في استثمار كل ثغرة تقنية متاحة؛ فإذا حجبت دولة ما موقعًا لتنسيق الاحتجاج، برز فورًا موقع آخر أو قناة تلغرام تؤدي الغرض. وإذا أغلقت صفحة على فيسبوك، انتقل الجمهور إلى تويتر أو إنستغرام لاستكمال الحملة. بل لجأ البعض إلى تكتيكات إبداعية تمامًا: كاستخدام تطبيقات المواعدة لنشر رسائل توعية حين حُجبت سائر القنوات، أو ابتكار ألعاب فيديو بسيطة تحمل رسائل سياسية تجذب صغار السن.
وفي مجال السرد، اعتمد النشطاء على قوة الرموز البصرية والتفاعلية لجذب الانتباه في زحمة المحتوى: فانتشرت رسوم الكاريكاتير السياسية والأغاني الساخرة ومقاطع الـ”ميمز” التي تنتقد الواقع بذكاء وسرعة انتشار كبيرة. يُذكر مثلًا كيف استخدم نشطاء يمنيون أثناء ثورة 2011 الخوذ المصنوعة من أرغفة الخبز كنوع من الدعابة في مواجهة عنف الشرطة، فتحول مشهد “خبزة على الرأس” إلى ميم منتشر ساهم في رفع معنويات المحتجين. هذا التحديث المستمر في الأساليب – من استعارة التراث الشعبي إلى تسخير أحدث التقنيات – أبقى جذوة الناشطية الرقمية متقدة وأكسبها قدرة على التكيف مع تغير ظروف المعركة.
الإنترنت كحق… لا مجرد وسيلة
اليوم، أصبح الفضاء الرقمي أصبح امتدادًا عضويًا لساحة النضال من أجل الحقوق والحريات في عالمنا العربي، ولا يقل أهمية عن الساحات والميادين التقليدية. تغير شكل الاحتجاج وأساليبه، لكن جوهره بقي واحدًا: سعي جماعي لإسماع الصوت ومقاومة الظلم. وإن كانت شوارع العواصم أصبحت مُحاصرة بالجنود والقوانين القمعية، فإن ساحات الإنترنت أصبحت الملاذ الذي يلجأ إليه المواطنون للتجمع والتعبير والتغيير. هذا الواقع يفرض على المعنيين بالحقوق والحريات – من نشطاء وصحفيين وشركاء دوليين وداعمين – إعادة النظر في مفهوم حرية التجمع والتعبير ليشمل الفضاء الرقمي.
فحماية حق التظاهر لم تعد تعني صون حق الناس في التواجد بالميادين فحسب، بل باتت تعني أيضًا ضمان حقهم في إنشاء هاشتاغ بحملةٍ ما دون أن يُعتقلوا، وفي بث فيديو يوثّق انتهاكًا دون أن يُحذف أو يُحجب، وفي تكوين مجتمعات افتراضية تتبادل الأفكار بحرية دون رقابة تعسفية. إن مستقبل المعارضة والحراك المدني في منطقتنا مرتبط بشكل وثيق بمدى حرية الإنترنت وانفتاحه؛ فكلما ضاقت ساحات الواقع تحت أقدام الناس، اتسعت أهميّة الساحات الافتراضية كمتنفس وكمحرّك للتغيير.
لا شك أن المشهد لا يخلو من المصاعب والتحديات، لكن التجربة أثبتت أن صوت الشعوب يجد طريقه دومًا – إن أُغلقت دونه الأبواب، تسلل عبر النوافذ. هكذا هي الحال الآن: إن أُغلقت الساحات، فالشاشات تنطق.
ومن هنا تبرز ضرورة ملحّة لجعل الدفاع عن حرية الإنترنت جزءًا لا يتجزأ من الدفاع عن حق التجمع السلمي والتعبير. فالمعركة من أجل غدٍ أكثر حرية وعدالة تشمل اليوم ميدانًا جديدًا هو فضاء الإنترنت – هذا الفضاء الذي يجب أن يبقى مفتوحًا وآمنًا ليكون منبرًا لصوت الناس، وركنًا أصيلًا من أركان ممارسة حقوقهم الأساسية دون خوف أو تكميم.
حماية الإنترنت هي حماية لحق الجميع في التجمع والتعبير في القرن الحادي والعشرين؛ وهي الضمانة لأن تستمر رحلة التحول من الشارع إلى الشاشة نحو تحقيق الكرامة والعدالة التي تنشدها شعوب المنطقة.