على خط زمني افتراضي، أوزّع التجمعات السلمية التي حصلت في لبنان منذ انتهاء الحرب الاهلية بين ثلاثة مراحل واضحة. وتزدحم اليوميات اللبنانية بتجمعات متفاوتة الحجم والتأثير، بعضها أنتجت تغيّرات في الواقع السياسي، أو في النصوص القانونية أو حتى في المفاهيم الاجتماعية.
وتمتد المرحلة الأولى ما بين عام 1990 والعام 2005، خلال هذه المرحلة كان الجيش السوري لا يزال في لبنان، أيضاً كان الجنوب اللبناني لا يزال تحت الاحتلال الاسرائيلي حتى العام 2000. خلال هذه المرحلة أيضاً عقد المؤتمر العالمي الرابع للمرأة، والذي نتج عنها اعلان ومناهج عمل بيجين لتحقيق المساواة الشاملة بين الرجال والنساء. بعد هذا المؤتمر ظهر جيلٌ ثالثٌمنالنسويات في لبنان، ساعد في صياغة تعبيراتٍ جديدة مثل “العنفالقائمعلىالنوعالاجتماعي” و“المواطنةالكاملة” و“التمييزالإيجابي“ ودفع من أجل نشر النوع الاجتماعي قانونياً ومفاهيمياً، وكذلك من أجل إدماج حقوق المرأة ضمن حقوق الإنسان. ومن أبرز نتائج هذا النشاط ان توقيع الدولة اللبنانية معاهدة إلغاء كافّة أشكال التمييز ضدّ المرأة (سيداو) في العام 1997، وإلزام لبنان بإنجاز أهداف الاتفاقية عبر إدماجها في القوانين المحلّية. سوف تتحوّل لاحقاً نتائج هذه المرحلة الى محرّك أساسي للتجمعات السلمية المطالبة بتنفيذ التزامات الدولة لإنهاء العنف ضد النساء.
عام 2005، وإثر اغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري، تصاعد الحراك المطالب بخروج الجيش السوري من لبنان، وكان التجمعات السلمية، أو ما عرف وقتها بالتظاهرات المليونية من أبرز معالمه. أسست هذه اللحظة الى مرحلة لاحقة من الانقسام السياسي العامودي بين ما بـ 8 و14 آذار. استمرّ هذا الانقسام على حاله حتى حرب تموز 2006 وما تلاها من تصاعد الخطاب المطالب بنزع سلاح حزب الله وشبكة اتصالاته، لتتصاعد بعدها وتيرة العنف وتصل حد حصول نزاعات مسلّحة داخلية فيما عرف بأحداث الجامعة العربية خلال شهر كانون الثاني 2007 ثم أحداث السابع من أيار عام 2008. سيطّر العنف وقوة السلاح على هذه المرحلة، وأثارت مخاوفاً كبيرة بين اللبنانيين من عودة الحرب الأهلية، وقد استمرّ الأمر على هذه الحال حتى بدء استعادة مشهد الحراك السلمي مع انطلاق حملة “تشريع حماية النساء من العنف الأسري” عام 2009، ثم تشكّل حملة “اسقاط النظام الطائفي” في شباط 2011 متأثرةً بالحراكات المطالبة بإسقاط الأنظمة الحاكمة في دول عربية مختلفة.
في السنوات اللاحقة على هذين الحراكين تسارعت وتيرة الحراكات والتجمعات السلمية التي شملت كافة المناطق اللبنانية، واتسمت بطابع لامركزي يحظى بدعم عابر للطوائف، وأبرز هذه التحركات كان حراك معلمي وموظفي الدولة للمطالبة بإقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة عام 2014، ثم ما عُرف بـ “حراك النفايات” عام 2015 وانتفاضة 17 تشرين عام 2019.
خلال هذه المرحلة أيضاً حصدت حملة تشريع حماية النساء من العنف الأسري نتائج عملها، حيث صدر قانون “الحماية من العنف الأسري” رقم 293 عام 2014، وغيره من القوانين المتصلة بتأمين المزيد من الضمانات المتصلة بحرية التعبير والتجمع السلمي، تحديداً قانون تجريم التعذيب رقم 65 الصادر عام 2015 وقانون رقم 191 الصادر عام 2020 والذي يعدل أحكام المادة 47 من قانون اصول المحاكمات الجزائية مكرّساً المزيد من الحقوق الاساسية للموقوفين لا سيما لجهة حضور محام في التحقيقات الأولية والحق بطلب تعيين طبيب شرعي.
عام 2020 انحسرت انتفاضة 17 تشرين في ظل جائحة كورونا واعلان الاغلاق العام ومنع التجول كإجراء احترازي يتصل بالصحة العامة. في 4 آب 2020، بينما كانت اجراءات الاغلاق العام مستمرة، حصلت جريمة تفجير مرفأ بيروت الذي أودى بحياة 220 شخص واصابة 6500 جريح. في الثامن من آب من الأسبوع نفسه، انطلقت مظاهرة واسعة في بيروت تعبيرا عن الغضب والحزن، وقد جوبهت بعنف قوى الأمن. بعد هذه التظاهرة، اقتصرت الحراكات المتصلة بالتفجير على احياء ذكرى 4 آب سنويا وتحركات أهالي الضحايا.
تشكّل حرية التجمع السلمي واحدة من القواعد المؤسسة للدولة اللبنانية، وهي بهذا المعنى مكرّسة بدستوره ومعززة بالتعديلات التي حصلت إثر انتهاء الحرب الأهلية والمعروفة بتعديلات اتفاق الطائف، لا سيما لجهة تكريس التزام لبنان بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية ومن ضمنها العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية والثقافية. يعود الحق بالتجمع السلمي في لبنان الى ما قبل نشأته كدولة مستقلة، حيث يمكن فهمه من صدور قانون الجمعيات عام 1909، على اعتبار ان انشاء الجمعيات هي واحدة من ابرز أشكال التجمع السلمي، والذي تعود الى حقبته بدء تبلور الحراك النسائي في هذه المنطقة، لتظهر بصورة بارزة في التظاهرات المطالبة بإعلان استقلال لبنان من الانتداب الفرنسي لا سيما بعد اعتقال الرئيسين بشارة الخوري ورياض سلامة وأعضاء الحكومة. وقتها، شاركت النساء الى جانب الرجال في التظاهرات المطالبة باستقلال لبنان، وكانت هذه المشاركة خطوة اضافية في مسار وصول النساء لإقرار حقهن بالترشح والاقتراع بالتساوي مع الرجال.
في النصوص القانونية، يكرّس الدستور اللبناني في المادة 13 منه الحق بالتجمّع، وتشير الى ” حرية إبداء الرأي قولاً وكتابةً وحرية الطباعة وحرية تأليف الجمعيات”. وفي ظل عدم تطرق قانون الجمعيات العثماني النافذ لتنظيم التظاهر بصورة خاصة، يخضع الحق بالتظاهر في لبنان للقرار رقم 1024 الصادر بتاريخ 29/3/2006، عن وزير الداخلية. وفقاً للقرار 1024، يخضع حق التظاهر أو التجمع أو الاعتصام الى “عِلمٍ” يقدم الى المُحافظ في المحافظة التي سيتم التحرك ضمنها، وذلك قبل موعد المظاهرة بـ3 أيام على الأقل. والعِلم يختلف عن الترخيص، وهو مجرد بلاغ عن وجود قرار بالتظاهر، خلافاً للترخيص الذي يفترض انتظار رد بالقبول أو الرفض من قبل الجهة المختصة. بالتالي فان مجرّد تقديم العلم، تصبح المظاهرة قانونية.
على الرغم من أن الإطار القانوني النصّي اللبناني يضمن حرية التجمع السلمي، الا أن الواقع يظهر وجود مساحة واسعة لقمع هذه التحركات وتفكيك الضمانات لا سيما في ظل ضعف استقلالية السلطة القضائية بصفتها حامية للحقوق والحريات، وتبعاً لذلك فإن القمع على اشكاله الذي يتعرض له المتظاهرون عادة ما يظل من دون عقاب. ومن التعابير الصارخة عن رغبة السلطة الحاكمة بالانعزال عن الحراك المطلبي السلمي، هو تحصين ساحة النجمة، اي ساحة مجلس النواب، ضد امكانية وصول المظاهرات اليها، بالإضافة الى بناء أسوار اسمنتية تمنع الوصول الى ساحة مقر مجلس الوزراء.
يتبيّن مما سبق رسوخ التجمع السلمي في لبنان كممارسة وحق مكتسب وثابت في تاريخ الدولة. كم أن هذا الحق بات مكرّساً في الدستور وهو يخضع لنصوص قانونية مرنة تسهّل ممارسته وتضمنها. على الرغم من ذلك، فإن هذا الحق لطالما ووجه بالكثير من القمع في الواقع، وقد تفاوتت حدة القمع تبعاً لاحتمالات تأثير الحراك على مصالح الحكّام، من زعامات طائفية وأصحاب مصالح اقتصادية. بهذا المعنى، فانه كلما تحوّل التجمع السلمي الى منصة تؤسس لسرديات لا تناسب السرديات المكرّسة للنظام الطائفي، أو سيطرة المصارف والشركات العقارية على الاقتصاد، وبالتالي عبّرة عن امكانية تحوّلها الى تأسيسها لشكل من الحراك المنظم المناوئ للتوافق الحالي، كلّما تزايدت حدة العنف والقمع ضده. فيما يلي يبرز تفاوت في العنف والقمع ضد التجمعات السلمية ما بين تلك المركّزة على مطالب محدّدة متصلة بحقوق النساء، والتجمعات السلمية على خلفيات بيئية لكنها تمتد الى مساءلة حول صفقات تنطوي على فساد مالي واداري.
“العنف الأسري”: من خلف الابواب إلى الشوارع والمظاهرات.
شكّلت قضية العنف الأسري ضد النساء محوراً تجمّعت حوله عدد كبير من المنظّمات غير الحكومية ضمن “حملة تشريع حماية النساء من العنف الاسري”. كانت هذه الحملة تهدف الى دفع مجلس النواب إلى اقرار قانون يعاقب على العنف داخل الأسرة ويؤمن حماية للنساء من هذا العنف. وكانت الحملة قد عملت بدايةً على كتابة مسودة القانون الذي تطالب بإقراره، ورفعتها الى الحكومة عام 2009، لتثابر بعدها على تنظيم مظاهرات وتحركات عديدة للضغط على السلطة التشريعية لإقراره.
ومع وصول مشروع القانون الى اللجان النيابية عام 2011، نظّم التحالف الوطني لتشريع حماية النساء من العنف الأسري تحرّكاً في 29 أيار 2011 تحت عنوان “تحرّك من أجل تحقيق العدالة للنساء والفتيات في لبنان” بهدف الضغط على المجلس النيابي لإقرار مشروع القانون ومن دون تعديلات تفرغه من مضمونه. المسيرة التي انطلقت من أمام وزارة الداخلية في منطقة الحمرا في العاصمة بيروت، نحو ساحة رياض الصلح، ضمّت مئات من المواطنين/ات والمناصرين/ات والجمعيات الأهلية، بالإضافة الى ممثلين/ات عن الهيئات النسائية في عدد من الأحزاب اللبنانية من بينها حزب الكتائب، التيار الوطني الحر، حزب القوات اللبنانية، الحزب التقدّمي الاشتراكي، تيار المستقبل، حركة أمل، الحزب السوري القومي الاجتماعي، حركة اليسار الديمقراطي والحزب الشيوعي اللبناني- تعبيراً عن تأييد هذه الأحزاب لمشروع القانون وضرورة إقراره في أسرع وقت. إن انخراط الأحزاب في هذه المسيرة هو تعبير عن استقبالهم لها كشأن موازي للسياسة، أو شأن اجتماعي، لا يؤثر على التوازنات والمصالح السياسية. كما أن معظم الأحزاب السياسية في لبنان، تتعامل مع قضايا النساء على أنها انعكاس لتوجهات حضارية وحداثوية، وهي تدعمها من هذه الزاوية أكثر مما تنظر اليها كقضية حقوقية. وبكل الأحوال، يؤدي انخراط الهيئات النسائية للأحزاب في هذه التحركات الى الحد من التصادم بينها وبين السلطة الحاكمة حيث تتمثل الاحزاب نفسها، مما يعزز استقبالها كشأن اجتماعي منعزل عن الفهم التقليدي السائد للسياسة، بالتالي لا يشكل محفزا لدى الحكومة لمجابهته بالعنف أو بالقمع.
لاحقا، خلال شهر تموز من عام 2012 نظّمت عدد من الناشطات بالتعاون مع فرقة زقاق المسرحية تحركاً رمزياً أمام مجلس النواب في ساحة النجمة في بيروت، وذلك بالتوازي مع انعقاد أحد آخر اجتماعات اللجنة الفرعية التي تدرس مشروع القانون قبل احالته بصيغته النهائية الى اللجان المشتركة. في تلك المرحلة كانت التعديلات التي أدخلت على مشروع القانون باتت معروفة لدى الجمعيات والناشطات اللواتي اعتبرن ان هذه التعديلات “شوّهت القانون”. كان تحرك تموز 2012 عبارة عن مشهدية مسرحية تظهر رجلا يتعرض لزوجته بالضرب، فتسقط أرضاً، لتسقط معها 20 ناشطة في الساحة، في دلالة على مصير النساء المشترك في ظل استمرار العنف الاسري. أتى هذا التحرك وقتها قبيل الانتخابات النيابية التي كان من المرتقب حصولها عام 2013، وقد عبّر عن توجه الحملة إلى الدعوة لمقاطعة انتخاب النواب الحاليين في اللجنة الفرعية الموكلة دراسة مشروع القانون بسبب قيامهم بتشويه مواده وعدم الالتفات إلى دعوات المنظمات والجمعيّات النسائية والنسوية لاحترام جوهر الصيغة الأولى من المشروع. إن تمكن النساء من التجمع سلمياً في ساحة مجلس النواب لم تتكرر حتى عام 2018 وذلك بعد اقرار القانون.
عام 2013 حملت نساء تجمّعت على مقربة من مجلس النواب شعار: “حياة النساء أهم من كراسيكم”، وذلك اثر تأخير طرح قانون حماية النساء من العنف الأسري تبعاً لمقاطعة أكثر من نصف النواب جلسات المجلس التشريعي وبالتالي تعطيلها في تلك المرحلة، ثم تعليقهم لحراكم التعطيلي بالمشاركة في جلسة تشريعية أقرّت قانون تمديد ولاية مجلس النواب حتى عام 2014. خلال هذه الوقفة لم يصدر التحالف اي بيان رسمي، انما اكتفى بتبني رسالة كتبتها “السيدة خ.س” متوجّهة الى رئيس مجلس النواب نبيه بري للمطالبة بإقرار القانون، وقد نشرتها في جريدة الأخبار اللبنانية. وقد اقتصر التحرك على قيام نساء أخريات بقراءة رسائل موجهة الى نواب دوائرهن الانتخابية. عام 2014 حلّ موضوع العنف الأسري عنواناً لمسيرة 8 آذار – اليوم العالمي للمرأة. وكان عنوان الدعوة الى هذه المسيرة:” اذا بدها شارع للتشريع نازلين”، وهو ما يعلي من اهمية التجمع السلمي مقابل عدم فعالية العمل التشريعي وبطئه لجهة القوانين المتصلة بالنساء في لبنان. في العام نفسه تم اقرار القانون بصيغته “المشوهة”. وتحوّلت التحركات المتصلة بالعنف الأسري في المرحلة اللاحقة الى المطالبة بتطبيق القانون، والمطالبة بمحاكمة مرتكبي جرائم العنف الأسري واصدار أحكام عادلة ورادعة تؤدي الى عدم تكرار هذه الجرائم.
شكّل التجمع السلمي في سياق المطالبة بإقرار قانون تشريع الحماية من العنف الاسري أداة من الادوات العديدة التي اعتمدت عليها الحملة الوطنية للوصول الى الزام مجلس النواب اللبناني بإقرار القانون. وتسجّل هذه الحركة من بين الأنجح استراتيجياً في المرحلة الممتدة بين 2010 و2020، بين التحركات التي تمكّنت من احداث نتيجة على صعيد السياسات العامة، و على صعيد الحراك النسوي في هذه المرحلة. أيضاً توصّلت هذه الحملة بما تضمنته من تجمعات سلمية ودعوات عامة لهذه التجمعات الى احداث أثر ملحوظ لجهة إحداث تغيير على صعيد المفاهيم الاجتماعية والتحوّل من اعتبار العنف الزوجي شأن خاص، إلى التعامل معه كجريمة يعاقب عليها قانوناً.
إلى ذلك، ومنذ عام 2014 تحوّلت مسيرة الثامن إلى محطة محورية وحتى مقياسية للتطورات والتحوّلات على صعيد الحراك النسوي في لبنان. وقد تلتها العديد من المسيرات التي شكّلت منصة للتعبير عن سعة تطلعات الحركة النسوية وامتدادها الى حقوق اللاجئين/ات وحقوق أفراد مجتمع الميم وحقوق العاملات المهاجرات وغيرها من القضايا. عام 2017 برز شعار مسيرة اليوم العالمي للنساء “قضايانا متعددة، غضبنا واحد”، حيث تحوّل هذا اليوم العالمي إلى مساحة عبّرت من خلالها المجموعات النسوية عن موقعها السياسي من الحالة الحقوقية في لبنان، كمدافعة عن حقوق الفئات الأكثر تهميشاً. وقد انضم وقتها إلى المسيرة مجموعات اللاجئين/ات السورية والفلسطينية، أيضاً انضم أهالي المفقودين والمخفيين قسرا خلال الحرب الأهلية، الأشخاص المعوّقين، وأفراد مجتمع الميم – عين. استمر الثامن من آذار بصفته التجمّع السلمي السنوي الذي يعبر عن قضايا النساء والقضايا الأساسية، الاقتصادية والاجتماعية من زاوية نسوية حتى عام 2020.
عام 2023 شهد تراجعاً مقلقاً على صعيد الحريات الخاصة لا سيما لجهة الميول الجنسية للأفراد. وقد واجه أفراد مجتمع الميم – عين هجمات كراهية وعنف متكررة، وباتت قدرتهم/ن على التنقل والتعبير عن ميولهم/ن تعرّض حياتهم/ن للخطر في ظل تلكؤ ممنهج من قبل قوى الأمن بتأمين الحماية لهم/ن. ومن أبرز هذه الحوادث كان الاعتداء على أحد الملاهي الليلية في منطقة مارمخايل في بيروت من قبل مجموعة من الاشخاص تسمي نفسها “جنود الرب”. في ظل هذا التراجع في حماية الحريات الفردية والعامة، قامت مجموعة من الناشطات/ين من منظمات غير حكومية ومجموعات سياسية جديدة بتنظيم “مسيرة الحريات” خلال شهر أيلول 2023. وخلال تجمّع المتظاهرين في ساحة رياض الصلح، أقدم مجموعة من الشبان بالتعرّض لهم/ن بالضرب والايذاء، لتنتهي التظاهرة من دون محاسبة المعتدين بعدها.
إن هذا التحوّل على صعيد التعامل مع التظاهرات المتصلة بالحقوق والحرايات بناءً على النوع الاجتماعي، يشكّل انذاراً خطيراً على الحق بالتجمع السلمي وحرية التعبير، لاسيما أنه حصل بالتوازي مع ارتفاع حدة العنف المنظم ضد النساء في دول محيطة، سواءً ما تتعرض له النساء في إيران من قمع وعنف منهجي من قبل الدولة، أيضاً الحملات ضد النساء بسبب ظهروهن على مواقع التواصل الاجتماعي في العراق ومصر، أيضاً تصاعد قمع النساء في بعض المناطق السورية باستخدام مفاهيم الآداب العامة. يتصاعد كل هذا العنف بالتوازي أيضاً مع التحوّل في استيعاب السلطة الحاكمة لقضايا الجندر، من كونها قضايا إجتماعية منعزلة إلى استقبالها على أنها مؤثر أساسي على النظام القائم، وبالتالي رؤيتها كتهديد لقدرتهم على الاستمرار بالسيطرة.
أزمة النفايات – لبنان 2015
القضايا البيئية: تنظيم سياسي في مواجهة “الفساد”
عام 2002 صدر القانون رقم 444 المتعلق بحماية البيئة، وذلك في سياق من تراكم المخالفات وحتى الجرائم البيئية في لبنان، من تكاثر الكسّارات العشوائية، إلى تلوث مياه البحر لا سيما التقرير الشهير الذي نشرته مؤسسة غرين بيس عام 1997 الذي يتطرق الى خطر النفايات التي ترميها بعض المصانع في مياه المتوسط والتي تؤدي الى موت الحياة البحرية في محيطها، وصولاً الى ملف النفايات ومعالجتها، وملف الأملاك العامة والأملاك البحرية.
خلافا للقضايا الجندرية التي يشكّل التجمع السلمي واحدة من أدواتها، فان التجمع السلمي شكّل في الحراك المتصل بالنفايات أداةً مركزية وأساسية. عام 2015 أطلقت مجموعة من الناشطين/ات السياسيين حملة تحت عنوان “طلعت ريحتكم” اثر توقف الشركة المتعاقدة مع الدولة اللبنانية للقيام بأعمال جمع ومعالجة وطمر النفايات في محافظتي بيروت وجبل لبنان (225 قرية وبلدة) عن العمل. على الرغم من كون الموضوع المحوري لهذه القضية يتصل بالشأن البيئي، غير أنها شكّلت منصة لفتح السؤال عن كل قضايا الفساد المتصلة بمستحقات البلديات التي لم تسددها الحكومة من الصندوق البلدي المستقل على مدى السنوات السابقة، وعن الفساد المتصل بإدارة ملف النفايات، وعن تهميش الأطراف وكيفية مقاربتها من قبل الحكومة لا سيما لجهة طرح حلول من نوع تحويل منطقة عكار في الشمال الى منطقة تستقبل النفايات من باقي المناطق اللبنانية ويتم طمرها هناك مقابل تسديد مستحقاتها من الصندوق البلدي.
لقد شكّلت التظاهرات التي حصلت على خلفية ملف النفايات في عام 2015، التحرك السلمي الأكبر في بيروت والأوسع لجهة لامركزيته في لبنان حتى ذلك الوقت، حيث انخرطت فيه مختلف المناطق اللبنانية وتم تنظيم تظاهرات فيها منددة بسياسات الدولة البيئية والفساد. ومن أبرز الشعارات التي انطلقت مع هذا الحراك كان شعار “كلن يعني كلن” في اشارة الى توحد المتظاهرين في موقع معارض لجميع الزعماء الطائفيين والسياسيين الذين يشكلون دعائم النظام السياسي اللبناني. وبهذا توسّعت الاشكاليات المطروحة في الشارع، من كونها متصلة بأزمة النفايات، إلى مسألة استقلالية القضاء، وعقود الدولة، والأملاك البحرية، والمركزية الادارية وتهميش الأطراف والطائفية السياسية.
لقد تمت مواجهة المظاهرات وقتها بمستوى مكثّف من العنف والقمع، وأدّت في بعض الحالات إلى احداث اعاقات دائمة لأفراد أصيبوا بإطلاق النار أو القنابل المسيلة للدموع. أيضاً تعرّض المتظاهرون للاعتقال والاخفاء بالإضافة الى احالتهم أمام المحكمة العسكرية.
ان ارتفاع مستوى العنف أظهر الحاجة إلى تنظيم جهود الدفاع عن المتظاهرين/ات فتشكّلت لجنة من المحامين/ات المتطوعين/ات للدفاع عن الموقوفين/ات، وقد بدأت اللجنة حينها بتلقي الشكاوى عن توقيف أو فقدان لأحد الاشخاص عبر خط ساخن تم تخصيصه لهذه المسألة.
ومن بين الأدوات الأخرى التي استخدمت بهدف فض التظاهرات وقتها، كان التحرش بالمتظاهرات، حيث وثّقت صوت النسوة تعرض عدد من النساء للتحرش خلال مشاركتهن في التظاهرة، وقد تضمنت الشهادات أوصاف مشتركة للمتحرشين تتصل بشكلهم، لباسهم وأماكن تواجدهم.
أدى تصاعد العنف من جهة، وغياب وجود أرضية تنظيمية جامعة للحراك إلى تراجع الأعداد المشاركة، وصولاً الى خفوت تام للتجمعات الكبرى المتصلة بموضوع النفايات خلال العام نفسه. بالمقابل فإن عدداً من الملفات القضائية المتصلة بمطامر غير قانونية أو غير مؤاتية للشروط البيئية تم تقديمها امام قضاء العجلة في عدد من المحاكم اللبنانية، حيث تحوّل الحراك نحو القضاء في مرحلة لاحقة. بعض هذه القضايا وصلت الى صدور قرارات وأخرى لاتزال في الأدراج حتى اليوم.
عام 2018، وأثر تأكيد البنك الدولي على الاستمرار بتمويل مشروع سد بسري في جبل لبنان، انطلق حملة “أوقفوا سد بسري” التي تعتبر أن بناء هذا السد يشكّل خطراً على المنطقة التي تقع على فوالق زلزالية. اتخذ التجمع السلمي في وادي بسري شكل الاعتصام المفتوح، حيث خيّم الناشطون هناك منعاً لاستمرار الأعمال. وعام 2018 كان عام الانتخابات النيابية المرتقبة بعد تمديد النواب لنفسهم لدورة نيابية ونصف، وقد استفاد الناشطون/ات في المنطقة من هذه اللحظة للضغط على الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، رئيس الحزب الاشتراكي وقتها، للتراجع عن دعم مشروع سد بسري، مما أدى إلى سحب أربع بلديات تأييدها للمشروع. ومن بين العوامل المشتركة بين حراك النفايات وبين حملة سد بسري هو البعد السياسي الذي أعطي للقضية البيئية، وهو ما عزز الانخراط الشعبي بها، وأخرجها من دوائر النشاطية المقفلة، بالتالي ادى الى توسيع دائرة وعدد المنخرطين في التجمعات السلمية الاعتراضية. بالمقابل، ان تركّز الحراك في منطقة جرافية خاضعة لسلطة سياسية وطافية واحدة في هذه اللحظة الانتخابية، استبعد امكانية قمعها باستخدام العنف بصورة منهجية أيضاً. نجحت حملة سد بسري بإيقاف الأعمال عام 2019، وتمكنت من دفع البنك الدولي لتعليق تمويل السد عام 2020.
لقد شكّل الحراك البيئي، بما شكّله من تجمعات ومساحات تجمع سلمية قادرة على طرح قضايا الفساد وأثرها المباشر على مصالح الناخبين في حياتهم اليومية الى مراكمة خبرات وتجارب سياسية ذات طابع حقوقي في لبنان، يمكن قراءة نتائجها بصورة لافتة في الانتخابات التي حصلت عام 2018، لا سيما لجهة صعود حملات انتخابية استطاعت حصاد أرقام مرتفعة لمرشحيها تحديداً في منطقة جبل لبنان، وهو ما يمكن قراءته بصورة متصلة مباشرة بنتائج حملة سد بسري.
أيضاً، شكل هذا الحراك أرضية أدت لانتفاضة 17 تشرين عام 2019، والتي بدورها أوصلت الى تغيرات في مجلس النواب، بوصول 12 نائب من خارج الاستطافات السياسية والطائفية التقليدية للمرة الأولى منذ اتفاق الطائف. يعتبر كثيرون أن انتفاضة 17 تشرين كانت مرحلة أخرى من مراحل تشكّل “كرة الثلج” بوصفها امتداد لحراك اسقاط النظام الطائفي عام 2011 وحراك النفايات عام 2015 وما بينهما وما بعدهما من تحركات شعبية سلمية.
أخيراً، في كل مرة تعمد الحكومة اللبنانية إلى قمع المظاهرات باستخدام العنف، تلجأ إلى تبرير عنفها من خلال نفي صفة السلمية عن هذه التجمّعات، ونشر أخبار تحذَر من وجود مندسين عنيفين في صفوف المتجمّعين. كما تعمد إلى النيابة العامة التمييزية الى الادعاء على المتظاهرين بتهم معاملة القوى الأمنية بالشدة وتخريب الأملاك العامة.