لئن تنبأت جلّ التقارير والدراسات خلال السنوات المنقضية بانفجار مرتقبٍ للتحركات الاجتماعية في تونس في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية وطنيا وعالميا، فإن الواقع يشير، على العكس من ذلك، إلى حالة غير مسبوقة من الشلل وتراجع الاحتجاجات. إذ سجّل مرصد الحركات الاحتجاجية للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تراجع عدد الاحتجاجات الاجتماعية في تونس مقارنة بالسنوات الفارطة على الرغم من تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. ويتسنّى لنا من خلال تقفّي العلاقة بين الفضاء المدني والحركات الاجتماعية رصد مدى تأثير التحولات التي يشهدها الفضاء المدني على الحركات الاجتماعية عموما وعلى الناشطين في المجال الاجتماعي بشكل خاص.
قد يأخذ التضييق على الحق في التجمع السلمي أشكالا متنوعة. ذلك أنه يعدّ من الحقوق الأساسية وثيقة الصلة بالحق في التعبير وحرية الرأي باعتباره شكلا من أشكال التعبير الجماعي. وبما أن سمة الحقوق الأساسية أنها، اتساقا مع اسمها، حقوق يتمتع بها المواطنون بشكل تلقائي لا تتدخل فيه الدولة إلا على وجه الاستثناء، وفق ضوابط موضوعة مسبقا ومتعلقة بمصلحة عليا وعامة، وبما لا يمسّ من جوهر هذا الحق، فإن كل اعتداء على الحق في التعبير وحرية الرأي هو تضييق للفضاء العام واستهداف لشتى الحقوق التي تتم ممارستها في إطاره ومن أبرزها الحق في التجمع السلمي. سنحاول فيما يلي أن نفهم انعكاسات التضييق على الحق في التجمع السلمي بالنسبة للحركات الاجتماعية من خلال التركيز على ثلاثة محاور متّصلة بالمخاطر والحلفاء والجمهور.
ضريبة فردية ..ومُسبقة
اِنطلقت جلّ التحركات الاجتماعية في السنوات الاخيرة من قرى أو مدن صغيرة في علاقة بقضايا تخصّ متساكني هذه المناطق بشكل مباشر. إلا أن هذه التحركات شهدت تحديات جمة حالت دون امتدادها وتوسعها رغم كونها متصلة بعناوين كبرى مشتركة كالحق في الماء أو الحق في بيئة سليمة أو الحق في التشغيل. ولما ظلت هذه التحركات محدودة ومشتتة ومحاصرة أمنيا، لم تنجح في اكتساب الاشعاع اللازم للتحول الى مستوى وطني يعزز فرص تأثيرها على القرار السياسي.
كانت تحركات متساكني الهوايدية بولاية جندوبة و حركة قرية أولاد جاء بالله بولاية المهدية أبرز الأمثلة التي قادها عدد من الناشطين من أبناء المنطقتين وعملوا على تنظيمها وتأطيرها من خلال عدة طرق فريدة. إذ نجح الحراك الاجتماعي في قرية اولاد جاء بالله في خلق حركية هامة في القرية من خلال جمع متساكني القرية على جملة من المطالب حيث كانت تعقد اجتماعات واسعة يحضرها عدد هام من المتساكنين. كما عمدت إثر تكوين تنسيقية صغار الفلاحين إلى انشاء صلات مع عدد من الفلاحين في مناطق أخرى وهو ما خلق ديناميكية ملفتة للانتباه. يذكر أن احتجاجات قرية أولاد جاء بالله انطلقت منذ 2021 على خلفية زيادات متتالية في أسعار الأعلاف تعرض خلالها متساكنو القرية لعنف شديد حيث تم استهداف المحتجين بالغاز المسيل للدموع والاعتداءات الأمنية لتفريق المحتجين وظلت آثار”العنف العقابي للدولة” حاضرة في قرية أولاد جاء بالله. وهو ما جعلها تحظى آنذاك بدعم هام من المنظمات الوطنية والجمعيات التي قادت عددا من القافلات التضامنية باتجاه القرية. وقد حافظت الحركة على حيويتها من خلال سلسلة من التحركات في عدد من الأرياف المجاورة حيث تجدّدت الاحتجاجات في 2022 ونجحت اثرها الحركة في الضغط على وزارة التجارة لاستخراج قرار بالتراجع على الزيادات الاخيرة.
كما خاض متساكنو الهوايدية في 2020 اعتصاما لغلق مصنع استخراجي تسبب في تلويث العين الطبيعية التي تستغلها المنطقة في غياب الماء الصالح للشراب وعملوا على توسيع الاحتجاج من خلال تكوين مجموعات من المتساكنين وتوسيع الانخراط في التحركات من خلال العديد من المبادرات من بينها مبادرات تعليم شعبي وتجمعات تحضيرية للتحركات والوقفات الاحتجاجية.
غير أن تتالي التتبعات ضد الناشطين الاجتماعيين الذين قادوا هذه التحركات كان له أثر بالغ على تواصل الحراك وتطوره. اذ انتهجت السلطة سياسة انتقامية ضدّ عدد من الناشطين الذين يقودون التحركات الاجتماعية وعمدت إلى إثارة تتبعات ضد بعضهم بشكل متكرر وهو ما نقل هذه القضايا، تدريجيا، من الفضاء العام الذي يضم فئات واسعة ومتنوعة إلى فضاء أضيق يضمّ الأطراف والجهات التي تربطها صلة رفاقية أو معرفة خاصة بهذه الشخصيات بالتالي جعل حلقة التضامن تصبح محدودة وضعيفة.
كما عمدت السلطات في الكثير من المناسبات الأخرى إلى مضايقة الناشطين بشكل استباقي في محاولة لقتل التحركات الاحتجاجية في مهدها. وهو ما حدث مع عدد من الناشطين في جرجيس -مدينة ساحلية في الجنوب التونسي- إثر الازمة التي شهدتها المنطقة أواخر سنة 2022 عندما غرق عدد كبير من شباب المنطقة في قارب هجرة غير قانونية. إذ عمدت السلطات الى تقفي المعلومات حول مواعيد ومكان التحركات واستدعاء الناشطين للتحقيق معهم قبيل التحرك.
غالبا ما ينجرّ عن هذه الاجراءات الاستباقية إرباك الحركة وتعطيل المبادرات فلا يظل هناك مجال لغير التحركات العفوية التي تكون مناسبتية ومرتبطة بأحداث كبرى أو صادمة وبالتالي قصيرة المدى باعتبارها ردة فعل وقتية على حدث ما. وعموما يؤثر كلّ من تقلص الفضاء العام وتزايد المخاطر بشكل ملحوظ على الأفراد بشكل مباشر ويضعف إقبالهم على التعبير عن آرائهم خصوصًا من خلال التجمع السلمي باعتباره أحد أكثر وسائل التعبير والاحتجاج حساسية في السياقات الانتقالية والمغلقة باعتباره يُمارس ضرورة في فضاء جماعي ومفتوح حيث يكون المشاركون أكثر عرضة للمضايقات والتتبعات.
فرّق.. تسدّ : استراتيجية السلطة في الانفراد بخصومها
يلعبُ الحلفاء دورا هاما في خارطة الفعل المدني والسياسي بمعناه العام. إذ تتأثر القضايا بشكل مباشر بالتقاطعات التي تجمع مختلف الفاعلين، وكلّما توسّع نفوذ السلطة السياسية وتقلّص هامش التأثير على السياسات عبر الأدوات السياسية كالانتخابات والبرلمان والسلطات المحلية، صارت المهام المحمولة على الوسائط المدنية للاضطلاع بدورها كقوة مضادة أكبر.
تظل السلطة السياسية عموما متيقظة للتأثير الذي يمكن أن يتمتع به الفاعلون المدنيون والسياسيون في صورة تحالفهم للحدّ من نفوذها ومعارضة سياساتها. لذلك تعمد في الكثير من الأحيان للحيلولة دون تكوين تحالفات واسعة عبر وسائل شتى، ولا تغفل عن استعمال الوسائل التاريخية المعتمدة في إضعاف الخصوم: فرّق.. تسدّ.
كان هناك لدى عدد من الفاعلين في تونس، إثر 25 جويلية، ارتباك ملحوظ في توصيف السلطة السياسية الجديدة والحسم في نواياها مما خلّف حالة عامة من التشتت والضعف. وفي حين كان عدد منهم منشغلين بالتقييم والتعامل مع الخلافات الداخلية التي انجرت عن الاختلاف في تقدير الموقف من النظام الجديد وكيفية التعاطي مع مؤسساته، كانت السلطة قد انتهجت بالفعل تمشيا يكشف عن نوايا سيئة لتضييق الفضاء المدني، حيث كان هناك مراوحة في توجيه الاستهداف لجهة دون غيرها في كل مرة. شهد الفضاء العام حملات خاطفة ضد الأحزاب السياسية والنقابيين ومن ثم ضد صحفيين وضدّ المجتمع المدني والمحامين. في الأثناء، سيطرت على الأجواء حالة من الترقب عمّقت عزلة الفاعلين المدنيين وجعلت التنسيق بينهم ضعيفا أكثر فأكثر. وانتهى الأمر إلى أن استحال التضامن في حدّ ذاته ضيقا للغاية ومقتصرا على جهات معدودة وأشكال محددة كالبيانات والتصريحات والتقارير مقابل تقلص أدوات احتجاجية أخرى.
من جهة أخرى، تمت مواجهة الاحتجاجات التي اندلعت في مدينة عقارب -مثالا- على خلفية أزمة متجددة متعلقة بالنفايات بتدخل أمني عنيف شهد وفاة أحد المحتجين اختناقا بالغاز وفق شهادات عدد من الناشطين رغم نفي وزارة الداخلية ذلك. وقد شهدت المدينة لاحقا اضرابا عاما بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل كما عمل كل من المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين على مرافقة الحراك ودعمه. غير أن القضية ظلت دون حلّ إذ لم تتوصل الحملة إلى مواصلة الضغط في ظل الايقافات التي طالت عددا من الناشطين بالاضافة إلى انتهاج السلطة المحلية سياسة تأليب داخلي لإضعاف الحركة الاحتجاجية وعزلها باعتبارها قضية تخص متساكني مدينة عقارب دون غيرهم، ما أفقد الحركة قدرتها على التأثير واستقطاب الدعم شيئا فشيئا.
ومع صدور المرسوم عدد 54 واستهدافه الممنهج للصحفيين والنخب المدنية والسياسية، أخذت المعركة ضد المرسوم حيزا هاما مع جهد ووقت العديد من الفاعلين وخسرت الحركات الاجتماعية في خضم ذلك انخراط العديد من الحلفاء. وقد أثرت رؤية النخب المدنية والاعلامية مهدّدة، رغم امتيازاتها وعلاقاتها الواسعة، بشكل واضح على الحركات الاجتماعية حيث وجد الفاعلون الاجتماعيون أنفسهم وحيدين، دون حزام داعم، في مواجهة آلة رسمية عمدت الى التضييق الممنهج على الناشطين وتقليص هامش الحركة في الفضاء العام بهدف الردع وفرض حالة من الامتناع التلقائي والرقابة الذاتية.
فضاء عام مُقفِر: معركة خاسرة أم فرصة؟
يُعدّ التجمع السلمي من الحقوق التي تعتمد بشكل كبير على الحشد. لئن كان التجمع السلمي يشمل فضلا عن التظاهر اللقاءات والاجتماعات، فإنه يظل في كل الأحوال من التعبيرات الاحتجاجية التي تمارس بشكل جماعي. من المهم إذن، في إطار التأمل في ممارسة حق التجمع السلمي والتحولات التي طرأت عليه خلال السنوات الأخيرة ألا نغفل المعطيات الموضوعية التي أضعفت انخراط الجمهور، من مواطنين ومتساكني مناطق معينة وفئات مهنية أو اجتماعية بعينها، وقلّصت إقبال الناشطين بشكل عام على ممارسة هذا الحق.
لا يمكن في هذا الصدد انكار حالة الانهاك التي يمرّ بها الفاعلون المدنيون والسياسيون والتي ألقت عليها العلوم الاجتماعية الضوء بشكل مكثف، خصوصا خلال السنوات الأخيرة، من خلال دراسة تأثيرات العولمة والتحولات البنيوية التي تشهدها المجتمعات على الفعل الجمعي عموما. ويلاحظ أن هاته الحالة تكون مضاعفة لدى الحركات الاجتماعية باعتبار أن السنوات العشر المنقضية شهدت، على الرغم من كل التحديات والاخفاقات، مكتسبات حقوقية افتكتها القوى المدنية بتضافر وسائل نضالية متنوعة. حيث تم إقرار تنقيحات هامة واصدار تشريعات تقدمية في مجال الحقوق والحريات لعلّ أبرزها تنقيح اجراءات الاحتفاظ والايقاف التحفظي من خلال القانون عدد 5 لسنة 2016 واصدار قانون مناهضة العنف ضد المرأة سنة 2017 وقانون مناهضة التمييز العنصري سنة 2018. في المقابل لم يتم تحقيق أي تقدم يذكر على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. على العكس من ذلك تم تسجيل تراجع ملحوظ لمؤشرات التنمية وتدهور للقدرة الشرائية وتصاعد مؤشرات الفقر واللامساواة ما انجر عنه اتساع الفروقات الطبقية والاجتماعية. تسببت هذه الخيبات المتتالية التي تُعزى إلى شراسة التوجهات الاقتصادية الجائرة ونفوذ دوائر المال والمصالح المتزايد على القرار السياسي في حالة من الركود العام وتراجع الايمان بالقدرة على الفعل والتغيير. وفي ظل شحّ المكاسب التي انجرت عن التحركات الاجتماعية بالاضافة الى تعاظم الخسائر التي طالت عددا هاما من الناشطين الذين قادوا التحركات الاجتماعية طيلة سنوات، خسرت هذه الوسائل الاحتجاجية جاذبيتها بالنسبة لشريحة واسعة من الجمهور المستهدف وتراجعت القدرة على الاستقطاب والحشد في ظل سيطرة مناخ عام من الاحباط وتلاشي الأمل في تحقيق شعارات الثورة’ شغل.. حرية.. كرامة وطنية’ بعد اثني عشرة سنة من المحاولات الفاشلة والفترات الانتقالية والأزمات المتتالية.
من جهة أخرى، ساهم الفضاء الافتراضي وخصوصا وسائل التواصل الاجتماعي في تقليص زخم التجمع السلمي، فعلى الرغم من كونه لعب دورا محوريا وايجابيا في فترات كثيرة لتنسيق التحركات والاحتجاجات وتوثيقها والحشد من أجلها فقد استحال أقرب ما يكون لفضاء لتفريغ الغضب والاستياء من الاوضاع العامة وبالتالي أصبح يلعب دور المسكّن للغضب والرفض الذي يفترض أن تتم ترجمته على أرض الواقع من خلال أدوات للفعل الجمعي بما يسمح بتوسيع التأثير وتحقيق التغيير المطلوب.
ولا شك بأن حالة الاحباط والفراغ التي يعرفها الفضاء العام قد تفسّر في أحيان كثيرة التأني والتردّد في تنظيم أي شكل من أشكال التجمع السلمي تفاديا لمزيد من الخيبات والخسائر غير أن هذا الوضع بقدر ماهو معطّل للفعل المدني يمكن أن يتحول إلى فرصة حقيقية للفعل والتغيير إذا ما رافقته دراسة جدية للمخاطر والفرص. ذلك أنه كلما كان هناك حالة من الاحتقان والغضب كان هناك فرصة لاستثمارها بالطريقة الصحيحة لتحقيق مطالب جوهرية للفئات المتضررة من سياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. فالحاجة الى احداث تغيير حاضرة ومشتركة ومتنامية إلا أن الاشكالية تكمن في تحويل هذا الرفض السلبي الى رفض ايجابي يحمل معه بديلا عما هو كائن. ولعل الاستمرارية التي نجح نموذج فلاحي أولاد جاء بالله في تحقيقها يمثل دليلا على أن الفرصة تظل دوما متاحة، رغم التحديات المتعددة، لاستثمار الفرصة والتحرك ميدانيا لصالح حقوق حيوية تحظى بالدعم والالتفاف اللازم.
على الرغم من التباين التي يمكن تسجيله في رصد وتقييم التطورات على مستوى الحق في التجمع السلمي بالنسبة للمختلف المسائل أوبالنسبة للسياقات الزمانية والمكانية، فإنه من المهم تحليل الخصوصيات ومن ثم محاولة تنزيل هذه الخلاصات في إطارها العام ومحاولة فهم التحديات التي يشهدها الحق في التجمع السلمي بشكل مطلق. يمثل كلّ من الثقة و الأمل عنصران أساسيان في فهم استجابة الجمهور لدعوات التحرك والفعل، ففي غيابهما يظل أفق التغيير محدودا حتى لو تقلصت التضييقات وكفّت السلطات عن محاصرة الحقوق. معنى ذلك أنه كلما نجح الفاعلون المدنيون والسياسيون في بناء الثقة من جديد في شرعيتهم واسترجاع الأمل في إمكانية تحقيق التغيير فإن الفضاء العام سيسترجع عافيته ومناعته شيئا فشيئا وسيفسح المجال أمام تحالفات قوية وقدرات أكبر على الحشد والتأثير والمناصرة لصالح القضايا الحيوية.