رغم أن الحق في التجمع السلمي مصون في الدستور اللبناني والاتفاقيات الدولية التي انضم إليها لبنان، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت انتهاكات متكررة لهذا الحق، خاصة في أعقاب انتفاضة تشرين 2019 وانفجار مرفأ بيروت. غالبًا ما جوبهت هذه التحركات الشعبية السلمية باستخدام مفرط للقوة دون مساءلة حقيقية. يعود ذلك إلى ثغرات قانونية تسمح بالتضييق على الفضاء المدني، وتمنح سلطات واسعة للأجهزة الأمنية في قمع الاحتجاجات.
يُعتبر الحق في التجمع السلمي حقًا أساسيًا مكفولًا دستورياً. فالدستور اللبناني ينص في المادة 13 على ضمان حرية إبداء الرأي قولًا وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وتأليف الجمعيات “ضمن دائرة القانون، كما تؤكد المادة 7 مبدأ المساواة بين جميع اللبنانيين في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية دون تمييز. وإلى جانب ذلك، التزمت الدولة اللبنانية دولياً بصون هذا الحق، إذ صادقت عام 1972 على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يعترف في المادة 21 بحق التجمع السلمي ولا يجيز تقييده إلا وفق شروط الضرورة والتناسب في مجتمع ديمقراطي. كذلك تؤكد مواثيق دولية أخرى كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “لكل شخص حقٌ في حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية. هذه المرجعيات تفرض على الدولة واجب احترام وحماية حرية التجمع لجميع الأفراد على أراضيها.
مع ذلك، لا يزال الإطار القانوني المحلي يحتوي على نصوص تسمح بتقييد التجمعات السلمية وقمعها. فبعض التشريعات الداخلية – التي يعود بعضها لعقود خلت – تفرض قيودًا صارمة على الإضرابات والتظاهرات. على سبيل المثال، على سبيل المثال، يُحظَر على الموظفين العموميين الإضراب عن العمل أو التحريض عليه بموجب مرسوم عام 1959، في انتهاك واضح لحقهم الدستوري والدولي في التجمع السلمي.
بالإضافة إلى ذلك، ما زالت بعض مواد قانون العقوبات تُستخدم لتجريم التجمعات السلمية. فمن غير المقبول أن تُعرِّف المادة 346 من قانون العقوبات أي تجمع مؤلف من سبعة أشخاص أو أكثر بهدف الاحتجاج على قرار حكومي بأنه “تجمهر للشغب” يعاقَب عليه بالحبس. مثل هذه التعريفات الفضفاضة تحول الاحتجاج السلمي إلى جرم بمجرد تجاوز عدد المتجمعين رقماً معينًا، وهذا يتناقض جذريًا مع المعايير الدولية التي تقضي بأن يكون الأصل هو حرية التجمع السلمي والتعبير، والتقييد هو الاستثناء وفي أضيق الحدود. في هذا السياق، تبرز حاجة ملحة لوضع خارطة طريق وطنية لحماية الفضاء المدني وتعزيز الحق في التجمع السلمي.
الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة نواف سلام مطالبة باتخاذ خطوات جريئة لإصلاح المنظومة القانونية والأمنية وضمان التزام جميع أجهزة الدولة باحترام هذا الحق. فيما يلي سبع توصيات رئيسية في الجوانب القانونية والسياسية والحقوقية والجندرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، تشكّل معًا خارطة طريق مقترحة للحكومة المقبلة من أجل صون الفضاء المدني وتمكين المواطنين والمواطنات من ممارسة حقهم في التجمع السلمي بحرية وأمان.
التوصية الأولى: مراجعة التشريعات المقيدة للحق في التجمع السلمي
يتعين على الحكومة الجديدة العمل مع مجلس النواب لتعديل أو إلغاء النصوص القانونية التي تقيّد الحق في التجمع السلمي والإضراب بشكل غير مبرر. ينبغي إزالة أي قيود قانونية تتعارض مع ضمان هذا الحق الدستوري. فعلى سبيل المثال، يجب إلغاء الحظر المفروض على إضراب الموظفين العموميين المنصوص عليه في الفقرة 3 من المادة 15 من نظام الموظفين لعام 1959، إذ أن منع موظفي الدولة من الإضراب يشكّل انتهاكًا واضحًا لحقهم في التجمع السلمي ويتعارض مع التزامات لبنان الدستورية والدولية. وبالمثل، يتوجب مراجعة قانون العمل الحالي الذي يحظر على النقابات الاشتغال بالسياسة أو المشاركة في أي تظاهرات ذات صبغة سياسية، مما يعني عمليًا حرمان فئة واسعة من العمال والعاملات من حقهم في التظاهر للدفاع عن قضايا وطنية أو سياسية تمس مصالحهم.
علاوة على ذلك، ينبغي تنقيح مواد قانون العقوبات المتعلقة بـ”التجمهر والشغب” والتي تُستخدم لتجريم التجمعات السلمية. فمن غير المقبول أن تُعرِّف المادة 346 من قانون العقوبات أي تجمع مؤلف من سبعة أشخاص أو أكثر بقصد الاحتجاج على قرار حكومي بأنه “تجمهر للشغب” يعاقَب عليه بالحبس. المطلوب هو إلغاء أو تعديل هذه المواد لإزالة التجريم عن الأفعال المرتبطة بممارسة الحق في التجمع السلمي، طالما بقيت سلمية ولم تترافق مع أعمال عنف أو تخريب. إن كفالة حق الإضراب والتظاهر السلمي عبر هذه الإصلاحات التشريعية من شأنه مواءمة القوانين اللبنانية مع المبادئ الدستورية ومع التزامات لبنان بموجب العهود الدولية، بحيث يصبح التقييد هو الاستثناء الضيق والحماية هي القاعدة.
التوصية الثانية: الالتزام بنظام الإخطار المسبق للتظاهرات بدل الترخيص المسبق
يضمن الدستور اللبناني (الصادر عام 1926 وتعديلاته) حريّة التجمع السلمي ضمن حدود يعيّنها القانون. وقد أكدّت التعديلات الدستورية بعد اتفاق الطائف التزام لبنان بالمواثيق الدولية لا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تكفل حق التجمع السلمي. أما الإطار التشريعي المحلي، فما يزال قانون الجمعيات العثماني لعام 1909 ساريًا كأساس لتنظيم حق تكوين الجمعيات والاجتماع، لكنه لا يتضمن نصوصًا خاصة بتنظيم المظاهرات العامة. لهذا السبب، اعتمدت السلطات نظام الإخطار المسبق بدلًا من الترخيص عبر قرار إداري حديث نسبيًا لسد الفراغ القانوني في تنظيم التظاهرات. فوفقًا لقرار وزير الداخلية والبلديات رقم 1024 بتاريخ 29 آذار/مارس 2006، يُكتفى بإشعار خطّي مسبق يُقدِّمه منظمو التظاهرة إلى المحافظ (رئيس السلطة الإدارية المحلية) يُبلغونه بنيّتهم تنظيم تجمع أو مظاهرة. ويجب تسليم هذا الإخطار قبل موعد التظاهرة بثلاثة أيام على الأقل، مع تحديد زمان ومكان التجمع بشكل واضح. لا يشترط القانون الحصول على أي موافقة رسمية مسبقة على التظاهرة؛ فالإخطار المسبق يختلف عن نظام الترخيص كونه مجرد إعلام للسلطات بنية التنظيم، وليس طلبًا يستدعي ردًا بالقبول أو الرفض. وبمجرد قيام المنظّمين بتقديم الإخطار واستيفاء الشروط القانونية، تعتبر التظاهرة مشروعة وقانونية. فإذاً، دور السلطات المحلية هنا يقتصر على تلقي الإشعار والتنظيم اللوجستي (كإبلاغ قوى الأمن الداخلي لتنظيم السير وحماية المشاركين) من دون أن يكون لها صلاحية منح إذن مسبق بالتظاهر في ظل نظام الإخطار المعتمد. ورغم وضوح هذا الإطار القانوني الذي يلغي شرط الترخيص المسبق ويستعيض عنه بالإخطار، تُظهر التطبيقات العملية أحيانًا تباينًا ينعكس سلبًا على حرية التجمع السلمي. رغم أن الإخطار المسبق لا يتطلب أي موافقة رسمية، إلا أن بعض المحافظين والجهات الأمنية ما زالوا يتعاملون معه كأنه طلب ترخيص، ما يؤدي إلى رفض بعض التجمعات أو قمعها دون سند قانوني.
كذلك، يتوجب صراحةً عدم اعتبار عدم حصول إخطار مسبق مبررًا لمنع التجمع أو تفريقه. فقد أكدت لجنة حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة أن عدم إخطار السلطات لا يجعل التجمع “غير قانوني” وليس ذريعة لفضّه أو اعتقال منظميه أو المشاركين فيه، خاصة في حالات التجمعات العفوية الناشئة ردًا على قرارات حكومية أو أحداث طارئة. بناءً على ذلك، ينبغي السماح بالتجمعات العفوية متى ما كانت سلمية، وتوجيه الأجهزة الأمنية للتعامل معها بضبط نفس بدلًا من القمع. إن تبني نظام الإخطار المسبق عوضًا عن الترخيص المسبق – وتوعية الجهات الرسمية بذلك – سيضمن حماية الحق في التظاهر السلمي ويحول دون تعسف السلطات في تقييده.
التوصية الثالثة: ضبط أداء القوى الأمنية ومنع الاستخدام المفرط للقوة
يتوجب على الحكومة إخضاع الأجهزة الأمنية والعسكرية المكلفة بضبط التجمعات لتدريبات مكثفة على معايير حقوق الإنسان في التعامل مع المتظاهرين، ووضع بروتوكولات صارمة لاستخدام القوة تراعي مبدأي الضرورة والتناسب. ويجب التأكيد في هذه البروتوكولات على أن دور قوى الأمن هو حماية التجمع السلمي وتيسير انعقاده، وليس قمعه. على عناصر الأمن الامتناع تمامًا عن أي عنف مفرط أو عشوائي أو ذو طابع انتقائي ضد المشاركين. وكقاعدة عامة، يُمنع نهائيًا استخدام الأسلحة النارية في تفريق التجمعات السلمية، ولا يُلجأ إليها إلا في أضيق نطاق لحماية الأرواح عند وجود خطر داهم. كما أن إطلاق الرصاص (حتى ما يُسمى “الطلقات التحذيرية” أو التصويب نحو أرجل المتظاهرين) هو ممارسة غير مشروعة يتعين حظرها بشكل بات.
أثبتت التجارب القريبة فداحة الثمن الذي يترتب على العنف الأمني ضد المحتجين. ففي تظاهرة 8 آب/أغسطس 2020 التي أعقبت انفجار المرفأ، تعرض متظاهرون سلميون لإطلاق نار واعتداء عنيف من قبل القوى الأمنية، ما أدى إلى سقوط إصابات في وقت كانت فيه المستشفيات بالكاد تستوعب ضحايا الانفجار. وفي احتجاجات تشرين 2019 وما بعدها، جُرح مئات المواطنين والمواطنات نتيجة الاستخدام الكثيف للرصاص المطاطي والغاز المسيّل للدموع والضرب بالهراوات، وفقد بعضهم أعينهم جراء إصابات مباشرة. مثل هذه الانتهاكات لا بد أن تتوقف عبر تبني تعليمات واضحة تمنع تكرارها، ومحاسبة من يخالفها من العناصر الأمنية.
ومن الإجراءات الضرورية أيضًا إنشاء قنوات تواصل فعالة بين قادة التظاهرات والقوى الأمنية أثناء التجمع. يمكن تحقيق ذلك من خلال تشكيل لجنة ارتباط ميدانية تضم ممثلين عن المتظاهرين وقائد القوة الأمنية الموجودة على الأرض، تتولى التنسيق الفوري لمنع أو احتواء أي خلل أمني أو احتكاك قد يطرأ. ومن المهم كذلك توجيه التعليمات لقوى الأمن بفصل ومعالجة أي أفراد يقومون بأعمال شغب أو عنف بشكل منفرد، وعدم اللجوء إلى تفريق التجمّع بالكامل لمجرّد وجود قلّة خارجة عن القانون ضمنه. بهذه الخطوات، يمكن حماية حق المحتجين في التعبير الجماعي عن مطالبهم بأمان، وفي الوقت نفسه صون الأمن العام ومنع تحوّل الاحتجاجات السلمية إلى مواجهات عنيفة.
التوصية الرابعة: ضمان المساءلة وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب
لا يمكن حماية الفضاء المدني وردع الانتهاكات المستقبلية من دون محاسبة جدّية للمسؤولين عن انتهاكات الحق في التجمع السلمي في الماضي والحاضر. على الحكومة أن تلتزم بإجراء تحقيقات مستقلة وشفافة في جميع حوادث القمع والعنف غير المشروع الذي مورس ضد المتظاهرين خلال الاحتجاجات الشعبية، بما فيها أحداث انتفاضة 17 تشرين 2019 وتظاهرات 2020 بعد انفجار المرفأ، وما رافقها من اعتداءات على المحتجين. لقد أدت سياسة غض الطرف وغياب المحاسبة إلى تمادي البعض في انتهاك حقوق المواطنين، وبثّت شعورًا عامًا بأن الأجهزة الأمنية فوق القانون. آن الأوان لكسر هذه الحلقة المفرغة عبر إحالة مرتكبي الانتهاكات إلى القضاء لينالوا الجزاء المناسب.
من الإجراءات العاجلة المطلوبة في هذا السياق تشكيل لجنة تحقيق مستقلة لتقصي حالات الاستخدام المفرط للقوة أو سوء المعاملة التي تعرّض لها المتظاهرون. ,يجب تمكين هذه اللجنة من الوصول إلى المعلومات واستدعاء الشهود ومساءلة المعنيين تمهيدًا لمحاسبتهم. فعلى سبيل المثال، تورد تقارير حقوقية أن بعض الشبان الذين اعتُقلوا خلال تظاهرات سابقة تعرضوا لمعاملة حاطة بالكرامة، بينها حلق شعر رؤوسهم وضربهم وإهانتهم قبل إخلاء سبيلهم. مثل هذه الأفعال تستوجب التحقيق والمحاسبة الفورية لمرتكبيها من العناصر الأمنية والمسؤولين الذين أصدروا الأوامر.
علاوة على ذلك، ينبغي وضع حدٍ للممارسات القضائية الجائرة بحق المحتجين، ومنها وقف إحالة المدنيين المشاركين في تظاهرات إلى المحاكم العسكرية الخارجة عن اختصاصها الطبيعي. فمحاكمة المدنيين أمام قضاء استثنائي تُقوّض حقهم في المحاكمة العادلة وتعزز الشعور بالظلم والقهر. بدلاً من ذلك، يتعين إحالة أي فرد يُتهم بارتكاب جرم أثناء احتجاج سلمي إلى القضاء المدني العادي لضمان الشفافية والعدالة. وبموازاة ذلك، يتوجب على النيابات العامة التحرك بجدية في ملاحقة شكاوى المتظاهرين الذين تعرضوا للأذى ومحاسبة المعتدين عليهم، وعدم الاكتفاء بإسقاط الدعاوى عن المحتجين من دون إنصافهم وجبر ضررهم. إن إنهاء حالة الإفلات من العقاب سيوجه رسالة قوية بأن الدولة جادة في حماية حقوق الإنسان. فمن خلال إنصاف ضحايا القمع ومعاقبة المسؤولين عنه ستكون الحكومة الجديدة قد وضعت أسسًا متينة لمنع تكرار انتهاكات الماضي وضمان احترام الحق في التجمع السلمي مستقبلًا.
التوصية الخامسة: تعزيز مشاركة المرأة والفئات المهمَّشة وحمايتهن/م في التجمعات
لا يكتمل الفضاء المدني الحر دون ضمان مشاركة متساوية وآمنة للنساء والفئات المهمشة، مثل الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة والأقليات الجنسية والاجتماعية المختلفة – في التجمعات السلمية. لقد لعبت المرأة اللبنانية دورًا رياديًا في الحراك الاجتماعي عبر التاريخ، من التظاهر لنيل حق التصويت في أوائل الخمسينيات وصولًا إلى الصفوف الأمامية في احتجاجات 2019، إلا أنها ما زالت تواجه عقبات خاصة تحد من مشاركتها الكاملة. لهذا، ينبغي أن تتبنى الحكومة نهجًا يقوم على إدماج منظور النوع الاجتماعي وحقوق الفئات المهمشة عند وضع سياسات حماية الحق في التجمع.
أولًا، على السلطات توفير حماية خاصة للنساء المشاركات في المظاهرات من أي اعتداءات أو تحرش. يتطلب ذلك نشر عناصر أمنية نسائية ضمن فرق ضبط التجمعات، والتصدي بحزم لأي حوادث تحرش جنسي أو لفظي قد تتعرض لها المتظاهرات ومحاسبة مرتكبيها. كما يتعين تعزيز الإطار القانوني لحماية المرأة من العنف في الفضاء العام عبر إقرار وتنفيذ قوانين تجرّم التحرش الجنسي في أماكن العمل والأماكن العامة بعقوبات صارمة تضمن العدالة للضحايا والمساءلة للمرتكبين
ثانيًا، ينبغي إزالة أي قيود قانونية أو إجرائية تحد من قدرة منظمات المرأة والمنظمات الشبابية والمجموعات المهمشة على التنظيم والحصول على الدعم. ففي الوقت الذي تعتمد فيه حركات المجتمع المدني على التمويل المحلي والدولي لتنفيذ مبادراتها، قد تواجه المنظمات النسوية والكويرية صعوبات إضافية في الوصول إلى التمويل بسبب النظرة النمطية أو العراقيل الإدارية. كذلك ينبغي للحكومة التعاون مع الجهات المانحة لدعم هذه المنظمات وبناء قدراتها، إدراكًا لدورها الحيوي في تمكين المرأة والفئات المهمشة ومشاركتهن/م الفاعلة في الحياة العامة.
ثالثًا، على الدولة إطلاق حملات توعية وتعزيز ثقافة مجتمعية تُقر بأهمية مشاركة المرأة وجميع الفئات المهمشة في الحراك المدني. يشمل ذلك مكافحة الخطاب التمييزي بما فيه العنصرية وكراهية النساء ورهاب المثلية وكراهية الأجانب وغيرها من أشكال الاضطهاد التي قد تُقصي النساء أو أي فئة مُهمشة من الفضاء العام.ويجب أن تقترن هذه الجهود بسياسات تربوية وإعلامية تسلط الضوء على النماذج الإيجابية لقيادة النساء والشباب في العمل المطلبي، بحيث يدرك المجتمع أن حق التجمع السلمي مكفول للجميع دون استثناء أو تمييز. ومن خلال هذه الخطوات، سيتم تمكين المرأة وسائر الفئات المهمشة من ممارسة حقهم في التجمع والتعبير الجماعي بحرية وأمان. وعندما يشعر الجميع بأن صوتهم مسموع وقادر على إحداث التغيير، يصبح الحراك المدني أكثر شمولًا وزخمًا، بما يثري التجربة الديمقراطية ويعزز المطالبة الجامعة بحقوق الإنسان في لبنان.
التوصية السادسة: دعم المجتمع المدني وتعزيز الحوار بين الدولة والمواطنين
إلى جانب حماية حق التظاهر، ينبغي على الحكومة توسيع نطاق الفضاء المدني عبر تمكين منظمات المجتمع المدني وتشجيع الحوار البنّاء بين الدولة والمواطنين. يمتلك المجتمع المدني اللبناني تاريخًا غنيًا من المبادرات والحملات التي ساهمت في الدفع نحو التغيير، ومن مصلحة الحكومة الاستفادة من هذا الزخم الشعبي بدلاً من مجابهته. عليها اتخاذ خطوات تضمن حرية تكوين الجمعيات والعمل الأهلي بلا معوقات بيروقراطية أو مضايقات أمنية.
في هذا الإطار، من المهم تسهيل إجراءات تسجيل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية وإزالة العقبات الإدارية أمامها، بحيث يتم الاعتراف بأي تجمع أو جمعية مدنية بمجرّد إخطار السلطات بتأسيسها، التزامًا بالقانون اللبناني العريق (القانون العثماني لعام 1909) الذي يكفل حرية تأسيس الجمعيات. كما يجب الامتناع عن فرض قيود بيروقراطية أو أمنية على نشاط تلك المنظمات، سواء عبر اشتراط موافقات مسبقة على فعالياتها أو التدخل في تمويلها. إن أي رقابة على عمل المجتمع المدني ينبغي أن تقتصر على ما ينص عليه القانون في إطار الشفافية ومكافحة الفساد، دون أن تتحول إلى ذريعة لكبح جماح النشاط الأهلي المشروع.
علاوة على ذلك، يتعين على الحكومة فتح قنوات تواصل منتظمة مع مجموعات المجتمع المدني وقادة الحراك الشعبي كإنشاء منصات حوار دورية تضم ممثلين عن النقابات والحراكات الاجتماعية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني وسائر الحركات المطلبية للتشاور حول السياسات العامة والقوانين قيد الإعداد. من شأن ذلك أن يتيح نقل مطالب الشارع إلى طاولة صنع القرار بطريقة سلسة، ويساعد على معالجة المشكلات قبل تفاقمها ونزول الناس إلى الشارع. من جهة أخرى، ينبغي على الحكومة توفير مناخ آمن لحراك الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان. يشمل ذلك حماية حرية التعبير الرقمي وضمان عدم ملاحقة الأصوات المنتقدة سلمياً على الإنترنت أو خارجها، بالإضافة إلى احترام حرية الإعلام وتمكين الصحفيين/ات من تغطية الاحتجاجات دون تضييق أو اعتداء. فأحد معايير الفضاء المدني الصحي هو قدرة الصحافة والمواطنين على نقل نبض الشارع ومعاناة الناس بأمان. كذلك، يمكن للحكومة تشجيع الثقافة الحوارية في المؤسسات التعليمية ومنظمات الشباب، عبر إدماج قيم المواطنة والتعبير السلمي عن الرأي في المناهج وتنظيم منتديات نقاش للشباب حول القضايا العامة.
التوصية السابعة: الاستجابة لمطالب الشعب وترسيخ نهج الحكم الديمقراطي
أخيرًا، على حكومة نواف سلام أن تُظهر التزامها الجدي بكونها حكومة إصلاحية تستمع لصوت الشعب وتستجيب لتطلعاته. فلا يكفي توفير الحماية القانونية والأمنية للتجمعات السلمية إذا لم يقترن ذلك بخطوات فعلية لمعالجة أسباب نزول الناس إلى الشارع. لقد خرج اللبنانيون إلى الساحات في 2019 وما بعدها مطالبين بحقوق أساسية وحياة كريمة في ظل أزمات خانقة على صعد الاقتصاد والخدمات ومكافحة الفساد. ومن أجل تعزيز ثقة المواطنين بأن التعبير السلمي هو طريق فعّال للتغيير، يجب على الحكومة تبني حزمة إصلاحات اجتماعية واقتصادية جادة تلبّي المطالب المحقة التي رفعتها الانتفاضة الشعبية.
يشمل ذلك تنفيذ تدابير ملموسة لمكافحة الفساد وضمان الشفافية في إدارة المال العام، وإطلاق ورشة إنقاذ اقتصادي تركز على حماية الفئات الأكثر ضعفًا وتأمين الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وصحة وتعليم. كما يتضمن الإسراع في تحقيق العدالة في قضية انفجار مرفأ بيروت ومحاسبة المسؤولين عنها، كونها مطلبًا جامعًا عبّر عنه المواطنون في الشارع. إن إظهار الحكومة لحسن النية والجدية في هذه الملفات سيبعث برسالة إيجابية إلى الشارع مفادها أن صوتهم مسموع ويؤخذ على محمل الجد، مما يشجع على استمرار المشاركة المدنية ضمن الأطر السلمية والمؤسساتية.
إضافة إلى ذلك، ينبغي ترسيخ نهج الحكم الديمقراطي القائم على المشاركة والمساءلة. فإذا كان الحق في التجمع السلمي هو وسيلة ضغط مشروعة لتحقيق الإصلاح، فإن تجاوب السلطات مع هذا الضغط السلمي بشكل حضاري سيؤدي إلى نتائج إيجابية لكل المجتمع. وفي المقابل، تجاهل مطالب المتظاهرين أو قمعهم يؤدي إلى تأزيم الأوضاع وفقدان الثقة وتصعيد الاحتقان. إن تنفيذ التوصيات الواردة أعلاه مجتمعة – من إصلاح القوانين إلى صون كرامة المحتجين وإدماج النساء والشباب في الحياة العامة – سيخلق مناخًا مؤاتيًا لتحقيق عقد اجتماعي جديد في لبنان، قوامه احترام الحقوق والحريات وضمان العدالة الاجتماعية والمساواة. ومتى شعر المواطن اللبناني بأن كرامته مصانة وصوته مسموع في صنع السياسات، ستترسخ دعائم ديمقراطية حقيقية تنعكس إيجابًا على استقرار البلد وتنميته المستدامة.
إن حماية الفضاء المدني ليست ترفًا بل أساس ضروري لأي عملية إصلاح سياسي واجتماعي. حكومة نواف سلام أمام فرصة نادرة لتكريس الثقة مع المواطنين عبر تبني سياسات جريئة تحترم حقوق الإنسان وتستجيب لمطالب الشارع. تنفيذ التوصيات الواردة أعلاه يمثل خارطة طريق حقيقية لبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على الحريات، والمساءلة، والمساواة.