Search
Close this search box.

سوريا | عام على سقوط نظام الأسد: الانتقال لن يترسّخ دون حقيقة وعدالة وإصلاح أمني وحماية للفضاء المدني

بيروت – 8 كانون الأول / ديسمبر 2025

بعد مرور سنة على سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول / ديسمبر 2024، وانتهاء حكم عائلي امتدّ لأكثر من خمسة عقود, وحرب مدمّرة استغرقت قرابة أربعة عشر عامًا أدّت إلى مقتل مئات الآلاف وتشريد ملايين السوريين والسوريات، تتابع هيومينا من موقعها كمنظمة إقليمية معنية بحماية الفضاء المدني ودعم المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان مسار التحوّل في سوريا وما يحمله من فرص ومخاطر على الحقوق والحريات الأساسية.

أدّت السيطرة السريعة لقوات معارضة على دمشق في كانون الأول / ديسمبر 2024 إلى انهيار مؤسسات النظام السابق وفرار بشار الأسد إلى روسيا، وتشكيل سلطة انتقالية جديدة برئاسة أحمد الشرع، الذي انتقل من قيادة فصيل مسلّح إلى موقع رئاسة دولة تُقدَّم بوصفها بداية مرحلة انتقالية جديدة. ورغم التغيّر الجذري في رأس السلطة وفي علاقات سوريا الخارجية، تُظهر المتابعة الحقوقية أن لبُنى الأعمق للعنف لم تُفكَّك بعد، وأن منطق السلطة الأمنية، والتمييز، والإفلات من العقاب ما زال حاضرًا بأشكال جديدة.

خلال العام الأول، أعادت السلطة الجديدة تموضع سوريا إقليميًا ودوليًا، وابتعدت عن تحالفات أساسية للنظام السابق، مع تخفيف بعض العقوبات وعودة تدريجية للتمثيل الدبلوماسي. غير أن هذا الانفتاح الخارجي لم يُترجَم بعد إلى إصلاحات بنيوية في الداخل. فما زالت أجزاء من الأجهزة الأمنية والعسكرية التي شكّلت عماد دولة الأسد حاضرة بهياكل أو مسميات جديدة، ومتداخلة مع فصائل مسلّحة لعبت دورًا رئيسيًا في إسقاط النظام، في ظل نظام دستوري مؤقت يمنح الرئاسة صلاحيات واسعة ويُبقي الحياة السياسية والحزبية تحت إشراف مباشر من هيئات سياسية وأمنية.

في هذا السياق، ترى هيومينا أن سوريا انتقلت من نظام استبدادي مغلق إلى ترتيب انتقالي لا يزال يفتقر إلى ضمانات مؤسسية حقيقية لعدم التكرار، وأن شكل السنوات المقبلة سيتحدد بمدى القدرة على معالجة ملفات الحقيقة والعدالة، وإصلاح القطاع الأمني، وحماية الأقليات والفئات الأشد استهدافًا، وتوسيع الفضاء المدني واستقلاليته.

 

«عام على سقوط نظام الأسد لا يكفي للحكم على مسار الانتقال، لكنه يكفي لنقول إن الحقيقة والعدالة ليست تفصيلًا ثانويًا. من دون كشف مصير المفقودين/ات، ومحاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات، وحماية الفضاء المدني، سنعيد إنتاج منطق القمع نفسه بوجوه مختلفة.»
– مصطفى فؤاد، المدير التنفيذي لهيومينا

 

يبقى ملف المفقودين والمفقودات والمختفين قسرًا في قلب هذا المشهد. فبعد عام على سقوط النظام، ما تزال عائلات عشرات الآلاف من الضحايا بلا معلومات كافية عن مصير أحبائها. تقارير أممية ودولية مستقلة تؤكد استمرار الكشف عن مقابر جماعية جديدة، وبقاء أعداد كبيرة من المفقودين مجهولي المصير منذ سنوات حكم الأسد، إلى جانب ضحايا مجموعات مسلّحة أخرى. لقد شكّل إنشاء آلية أممية خاصة بالمفقودين في سوريا، واعتماد مراسيم رئاسية بتأسيس “اللجنة الوطنية للمفقودين” و”لجنة العدالة الانتقالية”، خطوة مؤسسية مهمّة، إلا أن وتيرة العمل ما تزال بطيئة، والوصول إلى الأرشيف الأمني والعسكري ومواقع الدفن محدودًا، والشفافية تجاه العائلات والرأي العام غير كافية، مع شكاوى متكررة من منظمات سورية مستقلة وروابط عائلات بشأن تهميشها في رسم السياسات وفي بناء قواعد بيانات وطنية موثوقة.

في موازاة ذلك، تُرصَد أنماط مقلقة من العنف الانتقامي والاستهداف القائم على الهوية، ولا سيما في الساحل، وحمص، والسويداء. فقد وثّقت تقارير صحفية وحقوقية خلال العام الأول مجازر واستهدافات واسعة لمدنيين علويين في المناطق الساحلية، ودوائر من العنف في السويداء وجنوب سوريا طالت مدنيين دروزًا وبدوًا وغيرهم، في سياقات أُعيد فيها تعريف الضحايا والخصوم على أساس الانتماء المذهبي أو السياسي. هذه الأنماط تعيد إنتاج منطق العقاب الجماعي الذي طبَع ممارسات النظام السابق ضد مجتمعات وُصفت بأنها “معارضة”، وتنقله اليوم إلى جماعات تُعامَل بوصفها “موالية” أو “مرتبطة” بالنظام القديم، ما يهدّد بتثبيت دوائر جديدة من العنف والتمييز.

على مستوى العدالة الانتقالية، يُسجَّل أن إنشاء لجان وطنية للسلام الأهلي والعدالة الانتقالية والمفقودين، وبدء بعض الملاحقات بحق عناصر متهمين بجرائم جسيمة، يمثّل نقلة مهمة مقارنةً بالإفلات الكامل من العقاب في حقبة الأسد. إلا أن غياب إستراتيجية وطنية متكاملة للعدالة الانتقالية، تشمل الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات وعدم التكرار ضمن إطار زمني واضح، وتركيز الجهد على جرائم النظام السابق مع فجوات في التعامل مع الانتهاكات المرتكبة بعد سقوطه، يهددان بتحويل هذا المسار إلى أداة انتقائية تقوّض الثقة بدل ترميمها.

كما أن إصلاح القطاع الأمني والعسكري جزء لا يتجزأ من أي مسار انتقالي جاد. فالأجهزة التي ارتبطت لعقود بالاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري لا يمكن أن تستمر في العمل دون مراجعة بنيوية، كما أن الفصائل المسلّحة التي انتقلت إلى مواقع السلطة أو النفوذ تحتاج إلى إخضاع واضح للقانون. إن غياب رؤية لإعادة تعريف مهام الأجهزة الأمنية، وإخضاعها لرقابة مدنية وقضائية وبرلمانية فعّالة، ومراجعة ملفات القيادات المتورطة في الانتهاكات، يترك الباب مفتوحًا أمام إعادة إنتاج منطق “الدولة الأمنية” حتى في ظل أسماء وشعارات جديدة.

وتنعكس الأعباء الاقتصادية والاجتماعية للنزاع مباشرة على قدرة السوريين والسوريات على ممارسة حقوقهم الأساسية. فالبنية التحتية المدمَّرة، والاقتصاد المنهَك، وانتشار شبكات اقتصاد الحرب، كلها عوامل تعمّق الفقر واللامساواة وتخلق أشكالًا جديدة من العنف الهيكلي، خاصة تجاه المجتمعات الريفية والمناطق التي تعرّضت لتدمير واسع، والنساء المعيلات، والناجين والناجيات من الانتهاكات، والأشخاص ذوي وذوات الإعاقة. العدالة الانتقالية التي تنحصر في المساءلة الجنائية ولا تتقاطع مع حقوق الناس في الخدمات، والعيش الكريم، والحماية الاجتماعية، ستبقى محدودة الأثر وغير قادرة على تغيير شروط الحياة اليومية.

على مستوى النوع الاجتماعي والفئات الأشد تهميشًا، تبرز فجوة واضحة بين حجم الانتهاكات التي تعرّضت لها النساء، والناجون والناجيات من العنف الجنسي المرتبط بالنزاع، وفئات أخرى مهمّشة، وبين مستوى إدماجهم في مسار الحقيقة والعدالة وصنع القرار. إن غياب مقاربات حساسة للنوع الاجتماعي في عمل اللجان الوطنية، وندرة قنوات المساءلة الآمنة عن الجرائم الجنسية والجندرية، وغياب تمثيل كافٍ للنساء والفئات المهمشة في هيئات العدالة الانتقالية ومؤسسات وضع السياسات الاقتصادية والاجتماعية، كلها عوامل تعرّض جزءًا أساسيًا من الحقيقة لخطر الإقصاء، وتعيد إنتاج نفس الهرمية التي سمحت بالانتهاكات في المقام الأول.

أما الفضاء المدني، فيُسجَّل تحسّن ملموس في هامش النقاش العام مقارنةً بفترة حكم الأسد، مع قدرة أكبر على انتقاد الانتهاكات، وظهور مبادرات مدنية جديدة، وتناول أكثر جرأة لقضايا السجون والمجازر في الإعلام المحلي والدولي. إلا أن هذا التحسّن ما زال محكومًا ببنية قانونية وسياسية مقيَّدة؛ فالنظام المؤقت للعمل الأهلي والحزبي يُبقي تسجيل الجمعيات والأحزاب والفعاليات السلمية مرتبطًا عمليًا بموافقات إدارية وأمنية، ويجعل حرية تكوين الجمعيات وحرية التجمع السلمي وحرية التعبير حقوقًا تعمل ضمن هوامش متغيّرة وخطوط حمراء غير منصوص عليها بوضوح في القانون. وتعمل منظمات المجتمع المدني المستقلة، والمدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان، والصحفيات والصحفيون، في بيئة غير مستقرة، مع مخاطر متكررة للتضييق والضغط.

ويميل مسار الانتقال حتى الآن إلى تركيز القرار في أيدي نخب سياسية وأمنية، مع مساحة محدودة لمشاركة الضحايا وعائلات المفقودين/ات والمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني المستقلة. من منظور هيومينا، فإن تغييب صوت هؤلاء عن طاولة القرار، سواء في تصميم سياسات العدالة الانتقالية، أو الإصلاح الأمني، أو السياسات الاقتصادية والاجتماعية، يحوّل الانتقال إلى ترتيب بين قوى أمر واقع بدلاً من أن يكون عملية مجتمعية تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الحقوق والمساءلة.

 

انطلاقًا من هذا التقييم، تدعو هيومينا السلطات السورية إلى:

  • ترسيخ الحق في الحقيقة في ملف المفقودين/ات والاختفاء القسري من خلال ضمان مشاركة فعلية لمنظمات العائلات وروابط الضحايا في عمل اللجان الوطنية المعنية بالمفقودين والعدالة الانتقالية، ووضع خطة زمنية واضحة للوصول التدريجي والمنضبط إلى الأرشيف الأمني والعسكري، واعتماد برنامج شفاف لفتح المقابر الجماعية وتحديد هويات الضحايا تحت إشراف قضائي وفني مستقل وإتاحة النتائج للعائلات والرأي العام.
  • مواجهة العنف الانتقامي وحماية الأقليات والفئات المستهدفة عبر تجريم صريح للعقاب الجماعي والجرائم القائمة على الهوية في التشريع الوطني، وإجراء تحقيقات مستقلة وفعّالة في الهجمات التي استهدفت مدنيين علويين ودروزًا وبدوًا وغيرهم، ونشر نتائج هذه التحقيقات في آجال معقولة، وضمان محاكمات علنية وعادلة للمسؤولين عنها أيًا كانت مواقعهم، واعتماد سياسات حماية خاصة للمجتمعات التي تعرّضت لاستهداف متكرّر بالتنسيق مع ممثليها ومنظماتها.
  • إرساء عدالة انتقالية شاملة وغير انتقائية من خلال اعتماد إستراتيجية وطنية متكاملة للعدالة الانتقالية تغطي جرائم الماضي والانتهاكات اللاحقة لسقوط النظام، وتجمع بين الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات وعدم التكرار، وإصلاح منظومة القضاء وضمان استقلالها عن السلطة التنفيذية والأمنية، وتمكينها من النظر في الجرائم الجسيمة دون تدخّل سياسي، ووضع آليات واضحة لجبر الضرر الفردي والجماعي، بما في ذلك التعويض وردّ الاعتبار والتخليد غير التمييزي لذكرى الضحايا.
  • الشروع في إصلاح حقيقي للقطاع الأمني والعسكري يشمل إعادة تعريف مهام الأجهزة الأمنية، وإخضاعها لرقابة مدنية وقضائية وبرلمانية فعّالة، ومراجعة ملفات القيادات المتورطة في الانتهاكات الجسيمة وربط استمرارها في الخدمة بمعايير واضحة للمساءلة والنزاهة، وتنظيم العلاقة بين القوات المسلحة والسلطة السياسية بما يضمن خضوع الجيش لقيادة مدنية منتخبة وحظر تحوّل أي فصيل مسلح إلى سلطة موازية أو فوق القانون.
  • الربط بين مسار العدالة الانتقالية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للسكان عبر سياسات واضحة لمكافحة الفقر والفساد وتفكيك شبكات اقتصاد الحرب القديمة والجديدة، وتوجيه الموارد المتاحة لإعادة بناء الخدمات الأساسية في المناطق الأشد تضررًا، مع إعطاء أولوية للفئات الأشد هشاشة ومن بينها النساء المعيلات، والناجون والناجيات من الانتهاكات، والأشخاص ذوو وذوات الإعاقة.
  • إدماج النساء والفئات الأشد تهميشًا بصورة منهجية في مسار الحقيقة والعدالة وصنع القرار من خلال تمثيل حقيقي في اللجان الوطنية وهيئات العدالة الانتقالية ومؤسسات وضع السياسات الاقتصادية والاجتماعية، واعتماد مقاربات حساسة للنوع الاجتماعي في التحقيق في الجرائم الجنسية والجندرية، وتوفير قنوات آمنة ومؤمنة للمساءلة وجبر الضرر.
  • حماية وتوسيع الفضاء المدني عبر مواءمة التشريعات الناظمة لحرية تكوين الجمعيات والتجمع السلمي والتعبير مع التزامات سوريا الدولية، وإنهاء الممارسات الإدارية والأمنية التي تشترط موافقات غير مبرّرة على نشاطات المجتمع المدني، ووقف التهديد بسحب التراخيص كأداة للضغط، وحماية المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان والصحفيين/ات من الترهيب والتحريض والدعاوى التعسفية والتحقيق في أي اعتداءات يتعرضون لها ومساءلة المسؤولين عنها.

كما تدعو هيومينا الدول والمنظمات الدولية المنخرطة في دعم المرحلة الانتقالية في سوريا إلى ربط أي دعم سياسي أو مالي أو تقني بتقدّم واضح وقابل للقياس في هذه الملفات، وعدم تغليب اعتبارات “الاستقرار” أو “إعادة الإعمار” على حساب الحقيقة والعدالة وحماية الفضاء المدني، وإلى دعم منظمات الضحايا والمجتمع المدني السوري بصورة مستقلة وعدم حصر قنوات العمل في المؤسسات الرسمية وحدها.

بعد عام على سقوط نظام الأسد، لا تقاس جدية الانتقال بتبدّل الأسماء في رأس السلطة، بل بمدى الاقتراب من تفكيك منطق العقاب الجماعي، وكسر حلقة الإفلات من العقاب، وبناء دولة تعامل الضحايا والمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان والفاعلين في الفضاء المدني بوصفهم شركاء في رسم المستقبل، لا مجرّد شهود على ماضٍ لم يُحاسَب بعد. ستواصل هيومينا رصد التحولات في سوريا والعمل مع شركائها السوريين والإقليميين والدوليين من أجل انتقال يقوم على الحقيقة والعدالة وعدم التمييز، وعلى فضاء مدني مفتوح وآمن يسع جميع من يدافعون عن حقوق الإنسان.

Facebook
Twitter
Email
Print