كيف تبدو رحلة فرار من القمع إذا ما تجاوز القمع نفسه الحدود؟ بالنسبة للأشخاص من مجتمع الميم والنساء من شمال أفريقيا، فإن اللجوء وحده ليس صمام أمان وحماية. مارست مصر، ليبيا، وتونس قمعا عابرا للحدود الوطنية كوسيلة للإبقاء على سيطرة الدولة، ناقلة عنف الدولة عبر حدودها عن طريق الأدوات القانونية، والمراقبة، والدعاية. شكلت حكومات هذه الدول فيما بينها جهازا يجرّم المعارضة، ويراقب الهوية الجنسية، ويضمن أنه حتى فرارهم من الاضطهاد يُبقي عليهم تحت طائلتها. إنها عملية مدبَّرة ومقصودة بعناية: ضحايا الاضطهاد يجري مراقبتهم على الإنترنت، ويُستهدَفون بتشريعات فضفاضة بدعوى المبادئ الأخلاقية ، وفي العديد من الحالات، يجري تعقّبهم واعتقالهم من مساكنهم وأعمالهم. تستكشف دراستنا أساليب تلك الأنظمة في التعاون لإسكات الفئات المضطهدة مستغلين البُنى القانونية، والمراقبة الرقمية، وتوظيف الدعاية الرسمية المسيئة لهم. إنها ليست أنماط منفصلة، كلا، إنهم ينسجون شبكة قمع يتوجب التصدي لها بمقاومة عاجلة.
الآليات القانونية والمؤسسية للقمع
مصر: عمليات القمع الرقمية والمراقبة الرسمية
سخرت مصر ترسنتها الرقمية للقمع لمراقبة النسويات ومجتمع الميم والإيقاع بـهن/م. يستخدم النظام، تحت حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، أدوات مراقبة متطورة لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي. يستخدم النظام عموما تطبيقات المواعدة كفخ، وقوانين جرائم الإنترنت القمعية لاعتقال ومحاكمة الأفراد مثلييّ الجنس. يستخدم النظام وبشكل منهجي تطبيقات مثل “من هنا؟” – WhosHere وجريندر Grindr ، للإيقاع بالأفراد من مجتمع الميم. يتخفى الضباط و المخبرون السريون تحت أسماء وهمية ويظهرون كشركاء محتملين على هذه التطبيقات ليتواصلوا مع المستخدمين ويتفاعلون معهم لإغوائهم بلقاء شخصي مباشر، ينتهي باعتقالهم. يستغل النظام القوانين المطبقة، تحديدا قانون “الفسق” لاعتقال الناس ويحاكِمهم على مخالفات متعلقة بنشاطهم الجنسي، على الرغم من غياب الدليل الظاهر. بل ويقوم النظام، في حالات أخرى، بفبركة واختلاق مراسلات ومعالجة الصور لتوريط مجتمع الميم ومحاكمة أفراده على مخالفات وجرائم لم يرتكبونها. أدلى ضحيّة بشهادته عن كيف عدلت الشرطة الصور لإعطاء الانطباع بأنها “فاضحة”، مما أدى لتوقيفه دون وجه حق واحتجازه.
وبخلاف المراقبة الرقمية، تستعمل مصر قوانين “أخلاق عامة” موسعة وغير دقيقة لإسكات المعارضة. تجرِّم المادتان 178 و 269 من قانون العقوبات الـ “اعتياد على الفسق “و” نشر الفجور في الأماكن العامّة” وتستعمل عموما لاضطهاد مجتمع الميم. كما تُستهدف النساء أيضا وعلى نحو متزايد تحت نفس الذرائع. يجيء تضييق الخناق في أغلب الأحيان في شكل ادعاءات بنشر الفجور أو الإساءة للمبادئ الأخلاقية العامّة وقيم المجتمع، وهو ما يفضي إلى التوقيف والمحاكمة.
ومن أشهر صنّاع المحتوى على تطبيق “تيك توك” الذين تعرضوا للملاحقة، حنين حُسام ومَوَدّة الأدهم ، اللتان اعتقلتا في 2020 تحت ادعاءات بنشر محتوى خارج “يروج للعهر”. واجهت حسام اتهامات بالدعوة للدعارة لمجرد حثها النساء على استعمال وسائط التواصل الاجتماعي لكسب المال وتوليد دخل، فيما واجهت الأدهم الادعاء بمشاركتها لمحتوى ساخر . وحُبست الفتاتان لسنتين لكل منهما، مع دفع غرامات تصل لـ 300 ألف جنيه مصري (حوالي 18,750 دولارا أمريكيا – بمعدل التبادل النقدي وقتها) لإدانتهما بـ “انتهاك قيم ومبادئ الأسرة المصرية.”
يقع قمع الدولة بسهولة عبر قانون جرائم الإنترنت، بالأخص المادة 25، التي تنص على أن أيّ استعمال للتقنية بشكل “يخلّ بأيّ مبادئ أو قيم عائلية في المجتمع المصري” مجرّم، ويواجه مرتكبها السجن وغرامات ثقيلة. لا تحتاج الدولة بالضرورة لوقوع جريمة بالفعل، إذ يتكفل وكلاؤها أحيانا بتصنيع هذه الجريمة واختلاقها. الهدف ليس أبدا عقاب من أجرم؛ بل لتسجيل سابقة، ولجعل الرسالة واضحة: إن أية ممارسة خارج حدود معايير الأعراف المرعية للدولة لن تغتفر.
ليبيا: إدارة حماية الأخلاق العامّة وتجريم المعارضة
في ليبيا، تتعاون الميليشيات المدعومة حكوميا، والمؤسسات الحكومية لقمع حقوق مجتمع الميم و النساء، وهو ما يحدث عادة تحت غطاء حماية “المبادئ الأخلاقية العامّة.” إن وظيفة برنامج “حرّاس الفضيلة” هو فرض قمع قائم على النوع الاجتماعي أو التوجهات الجنسية للفرد، وقد وسّع نطاق قمعه تحت ذريعة حماية القيم “التقليدية.” و شجعت هذه المؤسسة المواطنين على مراقبة السلوك الاجتماعي والتدخل فيه والسيطرة عليه. من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في نوفمبر/تشرين الثّاني 2024، أبدى وزير الداخلية بالوكالة في “حكومة الوحدة الوطنية”، عماد طرابلسي، نيته لإعادة تفعيل “شرطة الأخلاق” لفرض إجراءات مثل غطاء الشعر الإلزامي للنساء، ومنع تصفيف الشعر بطرق “غريبة” بين الرجال، وقيود على “الاختلاط بين الجنسين”. أعاد طرابلسي أيضا تأكيد توجيه حكومة الوحدة الوطنية ، الذي صدر في أبريل/نيسان 2023، بمنع النسوة والفتيات من السفر للخارج دون محرم(صحبة ولي أمر ذكر). تشبه هذه السياسات النظم الثيوقراطية الاستبدادية، وتعزّز أفكار متزمتة عن النوع الاجتماعي وتفرضها بالقوة والإجبار.
بالتوازي مع هذا، يخضع أفراد مجتمع الميم في ليبيا إلى الإذلال العام، والإكراه على تقديم اعترافات، والاحتجاز المُطَوَّل. والمثلية الجنسية مجرّمة في ليبيا تحت طائلة قانون العقوبات (1953) وتحديدا المادة 407 منه، ويعاقب مرتكب “الجريمة” بنحو خمس سنوات سجنا. في سبتمبر/أيلول 2023، نفذ جهاز الأمن الداخلي حملة انتهت باحتجاز ما لا يقل عن 19 شخصا، يشدّد تضييق الخناق على حرية التفكير والمعتقد والتعبير. اتهم الجهاز المُحتَجَزين بانحرافات “دينية، وفكرية، و أخلاقية “واعتبر المستهدفين بحملته هم من المناوئين للعقيدة “المَدْخَلِيَّةُ السلفية” وهو التيار الديني المهيمن بالبلاد والذي ترعاه الهيئة العامة للهبات والشؤون الإسلامية (الأوقاف).
العملية كانت مساندة لجهد أوسع لـ”لحماية الفضيلة وتهذيب المجتمع” بحسب ما فُصِّل في مرسوم 2023 مايو/ ايار عن هيئة الأوقاف. تعرض المحتجزون، وجلهم من مجتمع الميم ، لانتهاكات مروعة، ومنها الاختفاء القسري، الاعتقال في أماكن غير معلومة ودون تواصل مع العالم الخارجي، والتعذيب. أجبر غالبهم على الاعتراف تحت الضغط، وبُثـَّت اعترافاتهم كمقاطع فيديو كانت قد صورتها جهاز الأمن. تضمّنت الادعاءات “الاتّصال الجنسي المحظور”، ” الكفر، “و” الردة، ” وهي وفق القانون المحلي اتهامات تحمل عقوبات بالسجن المؤبّد وحتى عقوبة الموت. ويعمل جهاز الأمن الداخلي على استئصال أيّة هوية لا تتوافق مع التفسيرات المتشددة لقادته.
يمتدّ القمع الليبي إلى ما بعد حدوده أيضا. استخدمت الحكومة الترحيل والإبعاد لإسكات أولئك الذين يهربون، تضغط على السلطات التونسية لإعادة اللاجئين من النسويين ومجتمع الميم تحت ذريعة كونهم ضحايا إتجار بالبشر. يحجب هذا التوصيف حقيقة اضطهادهم السياسي ويبرّر عودتهم الإجبارية لأوضاع خطرة على حياتهم.
تونس: المضايقة القانونية وتآكل هامش الحريات
لطالما اعتُبرت تونس نموذجًا للديمقراطية في شمال أفريقيا، ولكن في ظل حكم الرئيس “قيس سعيد”، أصبح تآكل المتاح من حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية في البلاد هو الأمر الواقع. ومن المفارقات أنَّ إساءة استخدام القانون هي أول ما يلجأ له في مسعاه هذا – إذ كان أستاذًا سابقًا للقانون الدستوري – حيث يسجن المحامين والنشطاء والصحفيين – أي أولئك الذين يجرؤون على تحديه. منذ انقلابه في يوليو تموز 2021، قام سعيد وبشكل منهجي بتفكيك البنية الديمقراطية، وتقويض استقلال القضاء، واستفحال القمع ضد المجتمع المدني والنشطاء والصحفيين. وفي شهادات متعددة، أفادت حركات حقوق المرأة ومنظمات حقوق الإنسان بتزايد توظيف القانون بهدف مضايقة الناشطات النسويات والمعارضين والإعلام. كما استخدمت الحكومة قوانين التشهير والاعتقال التعسفي والتحقيقات سياسية الدافع لإسكات المعارضة، وهو ما أسفر عن تفشي مناخٍ من الرقابة والخوف.
على سبيل المثال، حُكم على المحامية “سونيا الدحماني” في يوليو تموز 2024 بالسجن لمدة عام بموجب المرسوم الرئاسي 54 بشأن “نشر الأخبار الكاذبة” بسبب تصريحات تلفزيونية لها. فيما اعتُقِـلت الناشطة “سعدية مصباح“، رئيسة جمعية “منامتي” المناهضة للعنصرية، في مايو آيار 2024، بعد إدانة الرئيس سعيد لها ووصفه لـمنظمات دعم المهاجرين بأنهم ـ”خونة وعملاء”. تشير الأحداث المذكورة أعلاه إلى زيادة استخدام القانون لإسكات المعارضة وتقليص الحريات في تونس. صعدت تونس في الأسابيع القليلة الماضية من ملاحقة المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص في تيك توك وانستجرام، بحجة الحفاظ على “الآداب العامة”. ففي الفترة من 31 أكتوبر تشرين الأول إلى 6 نوفمبر تشرين الثاني 2024، حُكم على ما لا يقل عن سبعة مؤثرين على الأقل، وجميعهم يتمتعون بمتابعة هائلة، بالسجن لمدد تتراوح بين 18 شهرًا ونصف السنة”. وقد استندت هذه الأحكام إلى أحكام من قانون العقوبات وقانون الاتصالات، مستهدفةً المحتوى الذي يُعتبر منافٍ للآداب العامة. وتأتي هذه الموجة من القمع في أعقاب توجيهات من وزيرة العدل ليلى جفال، التي أجازت تحريك إجراءات قانونية ضد الأفراد الذين ينتجون أو ينشرون مواد تعد ضارة بالقيم الأخلاقية. ومن جرت مقاضاتهم الليدي سمارة، وهي شخصية مؤثرة بارزة على انستجرام ولديها أكثر من مليون متابع. وقد حُكم عليها بالسجن لمدة ثلاث سنوات وشهرين بسبب إدلائها بتعليقات ذات محتوى جنسي. إن قضيتها مثال حي يجسد جهود الحكومة التونسية الأوسع نطاقًا للتحكم في التعبير على الإنترنت وفرض التحفظ تجسد قضيتها الجهود والواسعة والمضنية التي تبذلها الحكومة التونسية للتحكم في التعبير على الإنترنت وفرض معايير أخلاقية مُحافِظة، وتحركات هي محل انتقاد لأنها نوع من قمع حرية التعبير واستهداف الأفراد بناءً على تفسيرات نسبية وشخصية للأخلاق والآداب.
لقد واجه نشطاء مجتمع الميم وحشية متزايدة ورغم كون تونس سابقا واحدة من الدول العربية القليلة التي تعمل فيها المنظمات المعنية بحقوق هذه الفئة بشكل علني، إلا أن قمع الشرطة تصاعد مؤخرا. ففي الفترة بين 26 سبتمبر أيلول 2024 و31 يناير كانون ثانٍ 2025، اعتقلت السلطات التونسية ما لا يقل عن 84 شخصًا – معظمهم من الرجال المثليين والنساء العابرين والعابرات جنسيًا – في مدن كبرى مثل تونس العاصمة والحمّامات وسوسة والكاف. تمت هذه الاعتقالات فقط على أساس التوجه الجنسي الفعلي أو المُتصور للأفراد أو هويتهم الجنسية أو الهوية الجندرية. وقد تعرض المعتقلون للاحتجاز التعسفي والملاحقة القضائية بموجب المادة 230 من قانون العقوبات بالبلاد التي تُجرَِم العلاقات الجنسية المثلية حتى ولو تمت بالتراضي. وأفاد عدة محتجزين أن الشرطة قامت بتفتيش هواتفهم بشكل غير قانوني لجمع الأدلة ضدهم. وجاءت هذه الحملة القمعية في أعقاب حملة موسعة النطاق على الإنترنت بدأت في 13 سبتمبر أيلول 2024، حيث تم ظهر خطاب كراهية ضد المثليين والمتحولين جنسيًا عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تلك الداعمة للرئيس التونسي قيس سعيد. كما قامت وسائل الإعلام الرسمية والكبرى بتصعيد الهجمة، وبثت رسائل هجوم وتحريض من مذيعي البرامج التلفزيونية والإذاعية الأشهر حيث هاجموا منظمات مجتمع الميم ودعوا لاعتقال نشطائها.
القمع العابر للحدود الوطنية: خطرٌ عبر الحدود
يشكل التنسيق بين أنظمة شمال أفريقيا لقمع المعارضة فيما وراء الحدود الوطنية تصعيدا خطيرا لقمع الدولة. لقد وسعت الحكومات في هذه المنطقة جهودها لإسكات المعارضة في الخارج خلال مشاركة المعلومات والنشاطات الاستخبارية، تكتيكات قانونية، وتعاون مباشر مع الدول المضيفة. يهرب نشطاء المنفى، الصحفيون، والمجموعات المهمّشة -بمن فيهم أفراد مجتمع الميم والنساء- من عنف محلي ليجدوا أنفسهم وعلى نحو متزايد مطاردين لما أبعد من أوطانهم الأصلية، ويفتقدون الحماية، وفي العديد من الحالات، يرحَّلون بالقوّة لمواجهة الاضطهاد في أوطانهم الأصلية.
في عهد رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة (منذ 2021) ، كثف النظام الليبي من اضطهاد الناشطين النسويين ولاجئي مجتمع الميم والهاربات من العنف الأسري ، وانتشر إلى تونس المجاورة. ينطوي القمع عبر الوطني في قضية التعاون الليبي-تونسي في ملف الاحتجاز والإعادة القسرية إلى ليبيا ، حيث يتعرض اللاجئون لانتهاكات جسيمة لحقوقهم الإنسانية. كما تواردت مزاعم حول تعاون بين الحكومة التونسية وشبكات تهريب المهاجرين إلى ليبيا. يتم إجبار هؤلاء المهاجرين على العمل (بالسخرة) ، والاستغلال الجنسي ، وغيرها من الانتهاكات عند عودتهم إلى ليبيا. كما تجبر النساء الهاربات من العنف الأسري واللجوء في تونس على العودة. يقدم وزير الداخلية، الطرابلسي ، الإعادة القسرية باعتبارها عمليات لإنقاذ ضحايا الإتجار بالبشر. يستبعد هذا الإطار الوضع المشروع للأشخاص الذين يغادرون لأنهم يتعرضون للاضطهاد والعنف القائم على النوع. تحاول الحكومة الليبية ، من خلال توصيف هؤلاء كمجرمين أو أشخاص يتم تهريبهم، استبعاد شرعية تجربة الناس ومخاوفهم، وشرعنة عمليات الاحتجاز والانتهاكات التي يتعرضون لها عند إعادتهم.
ليس جديدا هذا التعاون الأمني بين بلدان شمال أفريقيا، خذ مثلا ” قدرة إقليم شمال إفريقيا” وهو برنامج تعاون دفاع يضم في عضويته كل من دول الشمال الأفريقي (الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية – جمهورية مصر العربية – دولة ليبيا – الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية – الجمهورية التونسية – الجمهورية الموريتانية الإسلامية). يهدّف هذا التحالف لتعزيز الأمن الإقليمي من خلال التدريبات ومشاركة المعلومات الاستخبارية ، مما قد يؤدي إلى انتشار الممارسات الأمنية بين دولها الأعضاء. وعبر هذا تعمل البلدان المجاورة معا لمعالجة تحديات الأمن المشتركة. بينما الهدف الرئيسي من مثل هذا التعاون أن يواجه التهديدات مثل الإرهاب، يمثل أيضا منصة لتبادل المنهجيات القابلة للتطبيق لقمع المعارضة. تخلق روابط الأمن الوصيرة والبرامج التدريبية قناة تمر عبرها مثل هذه الممارسات. بالتعاون الاستخباراتي واحتجاز المنفيين، تقمع هذه الحكومات دعوات حركات الحقوقيين والنسويين ومجتمع الميم عبر الحدود.
دور الدعاية المسنودة من الدولة والتلاعب بالرأي العامّ
إن استخدام الدعاية لإضفاء شرعية على القمع عبر الحدود الوطنية أداة رئيسية ضمن غيرها في جعبة الأنظمة الاستبدادية، حيث الإعلام الجماهيري المسيطر عليه من الدولة كذا الشبكات الخاصّة المرتبطة بها يتبنون خطابا يجرّم النسوية، والمعارضة، وقضايا مجتمع الميم. تطوّر الأنظمة بمهارة استراتيجيات للتشكيك في النشطاء والحط منهم، والادعاء منهجيا بكونهم يشكلون تهديدا وجوديا لـ “القيم التقليدية “أو “الأمن القومي.” تخلق هذه الاستراتيجية جوّا من العداوة بما يبرّر استخدام النظام للقوة ويقمع المجتمع المدني.
بدورها، نجحت وسائل إعلام الدولة المصرية، تباعا، وعلى مدار تاريخها، في تشويه سمعة النشطاء بتصويرهم ضمن حلقة من المؤامرات الغربية. بعد توقيف وتعذيب الناشط بمجتمع الميم سارة حجازي، في عام 2017 قدّمتها أجهزة الإعلام المصرية كجزء من “مؤامرة خارجية” لإضعاف الشباب المصري. نفس المزعم ردّدها مسؤولو الأمن ورجال الدين، الذي جهروا بالتحذير من “استيراد العقائد والأفكار المنحرفة.” نفس التناول حدث في ليبيا وتونس، حيث تردد وسائل الإعلام هناك في أغلب الأحيان ما يصدره الإعلام الرسمي المصري في هذا الصدد بتصوير مناصرة مجتمع الميم وكأنه تدخل خارجي ومؤامرة، وليس دفاعا عن قضية عادلة.
وعلى نفس المنوال، في ليبيا، تنشر صفحات التواصل المرتبطة بأجهزة الأمن، وقوّات الأمن المسيطرة عليها خطابات معادية لمجتمع الميم والنسويين عموما. بثت أجهزة الإعلام الليبية في 2022 دعاية ضد “عملاء مجتمع الميم الأجانب مدعية أنهم “يروجون لانحرافات جنسية تحت غطاء نشاط حقوق الإنسان والمجتمع المدني.” خدمت هذه القصة لتشريع التوقيف الجماعي والاختفاء الإجباري من النشطاء. الوسط الاجتماعي الليبي حالة التّحالف المؤثِّرين و”صحفيون” يعملون أيضا لتقدّم العنف، سفرة ويضايقون النشطاء، وينشرون ما يسمّى بالأجندات المدعوم من الغرب. نفس الأسلوب تبته أجهزة الإعلام التونسية، التي اعتبرت المؤمنين بالنسوية ونشطاء الميم “خطر على الهوية “و” المتسلّلين الدخلاء.”
تونس، وعلى الرغم من صورتها كمجتمع تقدمّي نسبيا في السنوات ما بعد 2011، فقد شهدت وبقوة عودة مناخ معادٍ ودعاية مناهضة للنسوية ومجتمع الميم، وضد الحركات الاجتماعية. في هذه الحقبة كسبت لغة الأنظمة الاستبدادية أرضية بين أجهزة الإعلام العامّة والخاصّة في تونس لوصف المؤمنين بمساواة الجنسين ونشطاء الميم كـ “خطر على و تهديد للهوية الوطنية والدينية “و” المتسلّلين لتونس” الذي يحاول إفراغ الأمة من مبادئها الأخلاقية . بلغت هذه الحملة ذروتها في انتخابات 2019، عندما اتهم سياسيون ومعلّقون محافظون النشطاء بانهم مدعومون من الخارج لفرض “انحطاط أخلاقي.” شجّعت هيمنة الرّئيس قيس سعيد على تصعيد تلك الهجمة ضدّ النشطاء، فكان يلوم في خطاباته حركات المجتمع المدني ويحملها وزر الكساد الاقتصادي في البلاد ويلمّح إلى الحاجة لـ “تطهير” الأمة من تأثير العالم الخارجي.
وفي هذه البلدان، ينتقل هذا المسلك أيضا لقنوات أخرى: حيث تستخدم الحسابات المدعومة من الدولة، ومعها الحسابات المسجلة بغرض التصيّد والتنمر، شبكات التواصل الاجتماعي لتتحول لساحة معركة لإخافة، وترهيب، ونشر المعلومات المغلوطة عن النشطاء. لقد انتشرت كالنار في الهشيم نظريات المؤامرة مثل القول أن الحركات النسوية هم عملاء تحركهم أجهزة الاستخبارات الغربية، وأن المثليين والسحاقيات هو واجهة لإخفاء التجسس للخارج، وهو ما يشيع مناخا من الخوف ويمهد أو يبرر للقمع في البلاد. هذا النوع من حملات الدعاية تلك ليس مجرد أداة لفرض السطوة السياسية لكنه تحرّيض على العنف على أرض الواقع: من توقيف، وتعذيب، ومنفي إجباري للنشطاء. وباختلاق مثل هذه الأكاذيب، تحوّل الأنظمة عمليا الجدل العام بعيدا عن القضايا الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الراهنة أو الأكثر إلحاحا.
وعوضا عن التركيز على حل لمشاكل البطالة، أو الفساد، أو قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، يحوّلون الإحباط والغضب داخل المجتمع صوب الفئات المهمّشة، ويعزون عدم الاستقرار لهم. هذه الاستراتيجية، بالإضافة إلى مواصلة السياسات القمعية، تغري أيضا بمزيد من التعاون بين الدول القمعية في المنطقة، وتبادلها قواعد اللعبة التي تمارسها. يخدم هذا الاتجاه العالمي تعزيز استراتيجيات التعاون بين الأنظمة القمعية أيا كانت: بعسكرة تناولها لقضايا النوع والمسائل الجنسية، ويشرِّعون قمعا محليًّا، بالإضافة إلى تطوير آلية عابرة للحدود لقمع ومطاردة المعارضة. هذا النشاط، بالإضافة إلى أنه نابع من أفكار وتصورات متخيلة لدي الحكام، يؤثّر في الحقيقة على الأمن وسن القوانين، ويجعل مجتمع نشطاء المنطقة أكثر استضعافا وعرضة للقمع.
المقاومة واستراتيجيات للتضامن العالمي
لتقوية حركات المقاومة وضمان أمن النشطاء، ينبغي تطبيق بعض الأولويات الاستراتيجية. وأولها تحسين الأمن الرقمي من خلال التدريب على استخدام أدوات الاتصال”، القنوات المشفّرة، و أفضل ممارسات النظافة الإلكترونية. أما التهديدات النابعة من مراقبة الإنترنت والاختراقات، فإن التعاون مع شبكات أمن للإنترنت سيوفر الأدوات الضرورية لحماية النشطاء وشبكات العمل. كما يعد بناء شبكات أوسع أمر محوري أيضا، وينبغي تكثيف التعاون بين نشطاء شمال أفريقيا ونشطاء المهجر إذا رغبنا في زيادة تبادل المصادر، والتعاون في الدفاع والمساعدة والتدخل في حالات الطواري.
سيؤدي إنشاء تحالفات إقليمية مع استراتيجيات محددة للتوثيق والمساعدة القانونية وآليات الحماية سيضمن مواصلة التحرك بفعالية عند حدوث قمع أو انتهاك. من الأولويات أيضا الاستمرار في تقديم المساعدة القانونية ورفع الدعاوى (القضائية) العاجلة لتوقيف الترحيلات بدوافع سياسية وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان . كما يجب أن تتعاون شبكات حقوق الإنسان الدولية ووحدات الدعم القانوني لتقديم القضايا إلى المحاكم الإقليمية والعالمية بحيث يتم تمديد الحماية المناسبة إلى طالبي اللجوء والناشطين المنفيين. إن الضغط على الدول المضيفة لإنشاء حماية أكثر تأمينا بمواجهة عمليات الترحيل يحمي الناس من العودة القسرية إلى أماكن ومواقف تهدد حياتهم. تعد الدعوة العامة والإعلامية ضرورية أيضًا في مواجهة التضليل من قبل الدولة وفضح انتهاك حقوق الإنسان للناس. إن الاستثمار في مصادر أخرى مستقلة لوسائل الإعلام ، والتعاون مع الصحفيين الدوليين ، وتعليم استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية يوفر صوتًا للمواطنين المهمشين ويساعد في الكشف عن استمرار القمع.
كما ينبغي أيضًا النظر باهتمام في أمر صحة ورفاهية الناشطين ، لأن الاضطهاد طويل الأمد والنزوح القسري كافان لإضعاف النفس البشرية بشدة ومن وسائل توفير الدعم والمساعدة اللازمة لاستدامة المقاومة طويلة الأجل توفير الاستشارة المجتمعية وإتاحة الملاذات (والمآوي والمساحات) الآمنة وبرامج دعم الطوارئ. وبتطبيق التوصيات المذكورة أعلاه ، سيجد داعمو الناشطين والمدافعون عنهم والنشطاء أنفسهم في وضع يسمح لهم بالحفاظ على تحمل الضغوط والمنغصات، وبناء التضامن والدفع صوب إحداث تغيير حقيقي في شمال إفريقيا.
خاتمة
إن القمع العابر للحدود الوطنية في شمال إفريقيا ليس ناتجا ثانويا وعرضيا للأنظمة الاستبدادية، بل على العكس، فهو نظام متعمد ومنهجي لفرض السيطرة. فما يحدث في مصر ، ليبيا ، وتونس من تجريم لمجتمع الميم ، التضييق على حدود تعبير الأشخاص عن هويتهم الجنسية والنوع ، واستخدام القانون لإسكات المعارضة هو آلية عمل متكاملة لاقتلاع أي معارضة سياسية أو اجتماعية. وأمام قدرة هذه النظم على التواصل والتعاون عبر الحدود ، ومشاركة المعلومات الاستخبارية ، ودفع دول الجوار لترحيل الناشطين ينبغي علينا توليد استراتيجية مقاومة عبر الحدود الوطنية. لا حل ناجع بمفرده أو مضمون النتائج وآمِن العواقب ، فقط اتجاهات لا لبس فيها. تعد الدعاوى القانونية ، وتعليم الأمن السيبراني ، وبناء ائتلاف عالمي أدوات ضرورية من أجل الإطاحة بهذه الأنظمة القمعية. ومن أجل الرد على المعلومات المضللة يجب تشجيع التقارير المستقلة والتي تدحض المعلومات المضللة التي تروجها هذه النظم وزيادة عمليات التوعية عالميا بقضايانا. وقبل كل شيء ، وكأولوية فورية ينبغي توفير المأوى الآمن، واللجوء القانوني ، والمساعدة في حالات الطوارئ لضحايا القمع في هذه الدول وعبر حدودها. نعم، إن الاضطهاد منهجي، لكن هكذا يجب أن تكون المقاومة أيضا. السؤال ليس ما إذا كان القمع سيستمر – ولكن إذا كنا سنكافحه بالقوة التي يستحقها.