لأكثر من نصف عقدٍ من الزمان، أو يزيد، حُرِم السوريون بوسائل شتى من “امتلاك” بلادهم. بدء من الطعام الذي كانوا يتناولونه، و الشوارع التي ساروا فيها، كان يجري تذكيرهم دومًا بأن سوريا ليست ملكًا لهم، ولم يكن لهم أيّ دور فيها. لم يتمكنوا من المشاركة في الحياة العامة، وحصلوا على احتياجاتهم الأساسية بضوابط ومقادير (عبر حصص تموينية)، وطردوا وهجِّروا قسريّاً، وتعرضوا لأنواع لا تُعقل من الوحشية ، وحُرموا باستمرار من حقهم الأساسي في الكرامة، وكل ذلك باسم “سوريا الأسد”. وهو ما أفقدهم بنهاية المطاف أي إحساس بـ”ملكية” البلد، وترك الملايين يشعرون بأنهم لا يستطيعون حتى التماهي معها. أما وقد سقط النظام، فقد أصبحت سوريا “سوريا السوريين”، دولة تنتمي إلى شعبها فقط. فجأة، بدأت أجيال من السوريين يستعيدون ملكية بلادهم، بطرق مختلفة: استعادوا الشوارع والتاريخ والسردية والأهم: الحق الأساسي في التجمع السلمي.
تعد ممارسة الحق في حرية التعبير والتجمع السلمي محور استعادة ملكية البلاد؛ فهي تسمح للأفراد بالتعبير عن أنفسهم بشكل جماعي وتشكيل المجتمع الذي يضمهم. وهو أساس نظام حكم تشاركي و ديمقراطي قائم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون؛ ففي التجمعات السلمية، يمكن لجميع مكونات المجتمع السوري الإعراب عن مظالمهم وتعزيز ودفع أهدافهم في المجال العام. لقد كانت حرية التجمع السلمي في طليعة المطالب في مظاهرات العام 2011، وكانت حرية التجمع السلمي أول ما مورس من حقوق في الساعات الأولى التي أعقبت سقوط النظام بسوريا في 8 ديسمبر/ كانون أول 2024.
جغرافية التجمع السلمي في العاصمة دمشق
تشهد سوريا اليوم عدداً لا يُحصى من المبادرات السياسية والتجمعات والحوارات والمظاهرات والاعتصامات التي تظهر جليا تطلُّع الشعب السوري للمشاركة في الوكالة السياسية لبلادهم، فبعد أربعة عشر عاماً من الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان والدمار الاقتصادي، لدى السوريين الآن مطالب وتوقعات عدة تتضافر مع رغبتهم في رسم مستقبل بلادهم. وقد اختار العديد منهم، وعلى نحو غير مسبوق، التعبير عن مظالمهم علنا في شوارع العاصمة وميادينها ليسمعها الجميع.
أصبحت “ساحة الأمويين” بقلب العاصمة دمشق مكاناً تتصادم فيه الأفكار والتطلعات المتعارضة. هذه الساحة التي كانت تحيط بها مكتبة الأسد ودار الأوبرا السورية، باتت فجأة ملتقى للنقاشات السياسية المحتدمة بين السوريين. اتحدت مختلف فصائل المجتمع السوري بكل تعقيداته وتجاربهم وخبراتهم الحياتية المختلفة في هذه الساحة ليواجه كل فريق رؤى الفريق الآخر. ففي مشهد ذي دلالة بعد أيام من سقوط النظام، واجهت شابة مشاركة بمظاهرة تدعو إلى سوريا “علمانية” رجلاً يحمل رأيا مخالفا. انخرط الإثنان في نقاش صاخب، وإن بقى سلمياً، ولأول مرة منذ 54 عاماً، تم التعبير عن وجهات نظر مختلفة ومتعارضة في ساحة عامة بقلب العاصمة.
في دمشق، لا يهيمن السوريون في دمشق على الساحات والشوارع فحسب، بل حتى المقاهي والمنازل في دمشق القديمة. فعلى سبيل المثال، كان “مقهى الروضة” مكانًا يثير الخوف بين السوريين. فعلى كل طاولة هناك مخبر للتجسس على حديث الزبائن وإبلاغ جهاز أمن الدولة (المخابرات). أما الآن، فقد أصبح مكاناً يجتمع فيه مئات السوريين يومياً للاستماع لمناقشات حول العدالة الانتقالية والمُحاسبية ومسودة الدستور وأيّ موضوع يمسّ الرأيَ العام. وحول كوب من الليمون الساخن والكمون – وهو مشروب مميز في دمشق – تدور نقاشات صاخبة وساخنة، يُفصَح عن المخاوف وتُصَاغ المطالب.
والأهم أنه جرى تنظيم عدد من المظاهرات والاعتصامات في ساحة “محطة قطار الحجاز” من قبل عائلات المفقودين الذين يلعبون الدور المحوري في تشكيل أيّ مستقبل لسوريا. وقد تجمعوا هناك في عدة مناسبات لحمل صور أحبائهم والمطالبة بالكشف عن مصيرهم وأماكن وجودهم؛ وهو مطلب مركزي لبدء أية عملية للعدالة الانتقالية. أما “ساحة المرجة” فهو مكان مركزي آخر في دمشق يحتشد فيها أيضًا مئات الآلاف من عائلات المعتقلين المختفين قسريًا للتعبير عن محنتهم. وفي بحثهم الموجع هذا عن أحبائهم، اختار هؤلاء النصب التذكاري الذي يتوسط ساحة المرجة للصق صور المختفين وبياناتهم الشخصية. غدت هذه الساحة رمزًا لشجاعتهم التي لا تلين لاستعادة السردية ووضع معركتهم في قلب المطالب الجماعية للسوريين. لقد ذكّروا العالم بأسره أن المجتمع السوري لا يمكن أن يطمح لأي شكل من الانتقال دون بذل الجهود لتلبية حقهم في معرفة مصير أحبائهم.
وقد عبرت عائلات المعتقلين والمختفين عن مطالبهم بشكل مستمر في الشوارع التي استعادوها وامتلكوها، وعلى رأسها: مطالبة الحكومة (الحالية) بإغلاق السجون ومراكز الاحتجاز، والحفاظ على جدران الزنازين (التي تسمح للعائلات بالبحث عن آثارٍ لذويهم)، وزيادة الجهود المبذولة للبحث عن مصير ومكان وجود مئات الآلاف من المختفين. وقد تم تهميش هذه المطالب من قبل الحكومة إلى أن أصبح الأمر قضية عامة على الإنترنت.
والواقع أن الحق في حرية التجمع السلمي لا يُمارس في التجمعات على الأرض فحسب، بل يمتد أيضًا إلى المشاركة عبر الإنترنت. وبما أن ما يقرب من سبعة ملايين سوري منتشرين في جميع أنحاء العالم ومثلهم من النازحين داخلياً، فقد تبين أن هذه الأشكال من التجمعات لها نفس تأثير التجمعات الشخصية. وللتعبير عن السخط عبر الإنترنت تأثير أكبر في حالة سوريا، حيث تعمل الحكومة الحالية في سياق يهدف إلى تبييض تاريخها من انتهاكات حقوق الإنسان وإضفاء الشرعية على نفسها أمام المجتمع الدولي ورفع العقوبات عن سوريا في نهاية المطاف. إن تسليط الضوء، عبر الإنترنت، على الانتهاكات المستمرة التي ترتكبها الحكومة الانتقالية السورية يهدف إلى تعطيل جهود التبييض تلك والضغط من أجل الحصول على ضمانات باحترامها للحقوق الأساسية.
واضح أن السوريين ليسوا على استعداد للسماح بفرض أية أجندة عليهم، وهم لا يترددون في التعبير بالفعل عن استيائهم كلما تبنت الحكومة الانتقالية إجراءات أو تصريحات إشكالية خلال الأشهر القليلة المنصرمة. واضح أيضا أن العديد من محاولات الحكومة الحالية لإعادة توجيه السياسة السورية وفق أجندتها الخاصة قد تعطلت بسبب الاضطرابات الشعبية. كما أن التظاهرات الواسعة ضد العدوان والاحتلال الإسرائيلي للجنوب ووحدة الأراضي السورية قد حددت بجلاء مسار السياسة الخارجية السورية: فما حدث من إجراءات تغيير البرامج الدراسية بالإجماع، وتعيين وزير العدل الذي كان يشرف على إعدام النساء في شمال غرب سوريا، وتصريحات عبيدة أرناؤوط التي قللت من فرص عمل المرأة، كلها تصريحات قوبلت بانتقادات عنيفة على الإنترنت وميدانيا على الأرض. وقد أدى ذلك إلى بعض الإصلاحات – وإن كانت لا تزال شحيحة وقاصرة – بيد أنها وبلا جدال وضعت الإطار الذي ينبغي أن تعمل الحكومة على أساسه.
حرية التجمع السلمي والحقوق المدنية والسياسية المتصلة ليست مؤسسية بأية درجة:
يفتقد السوريون حتى الآن وسائل التعبير عن مظالمهم، إلا إذا حولوها لقضية عامة وفرضوها على المجال العام. كما لم يتم إضفاء الطابع المؤسسي بعد على حرية التعبير المكتسبة حديثاً. فالسوريون يمارسون حريتهم في التعبير عبر الإنترنت وفي الشوارع، و ليس من خلال صناديق الاقتراع، حيث يتم إخبارهم باستمرار أن سوريا غير جاهزة لأي نوع من الانتخابات. ورغم إدراكنا أهمية وجود نوع انتقالي من الحكم لبناء البلد من الحطام، فلا شيء يبرر عدم التشاور والمشاركة في بعض الجوانب المهمة في الحياة السياسية والمدنية في سوريا، وحرمان الشعب الواقع فعليا من حقوقه السياسية والمدنية.
ففي يناير / كانون الثاني مثلا، اجتمع المحامون وطالبوا في بيان علني بإجراء انتخابات داخل نقابتهم – وهي الهيئة يفترض تمثيلها مهنة المحاماة. وقد تجمعوا في دمشق أيضاً للنقاش حول استقلالية مهنة المحاماة والقضاء. وكانت المطالبة بإجراء انتخابات حرة ونزيهة داخل نقابة المحامين واضحة ومجمع عليها، واعتبروها الخطوة الأولى لمنع أي تدخل من السلطة التنفيذية في ممارسة عملهم. لكن ما حدث هو أن رفض الرئيس الحالي غير المنتخب لنقابة المحامين السوريين، الذي عينته السلطة التنفيذية نفسها، رفضاً قاطعاً تنظيم مثل هذه الانتخابات، مدعياً أن المحامين “غير مستعدين”بعد لهذه الخطوة.
من منظور أوسع، وقعت عملية تسمية أعضاء اللجنة الدستورية التي صاغت الإعلان الدستوري مؤخراً في مرمى انتقاد شديد أيضاً. فبعد سقوط النظام، دأبت الشخصيات السورية من مثقفين ومحامين ودستوريين سوريين على المطالبة باعتماد الدستور السوري للعام 1950 كمسودة للدستور الجديد بما في ذلك نفس مسار اعتماده: إذ طالبوا بتشكيل جمعية تأسيسية منتخبة، عقب إجراء انتخابات حرة ونزيهة في جميع أنحاء البلاد، تكون مهمتها تسمية “لجنة دستورية”. لكن ما حدث أن قام الرئيس السوري الحالي الذي نصب نفسه رئيساً للبلاد، منفرداً بتسمية الأعضاء السبعة لهذه اللجنة الدستورية ، مذكراً السوريين بحقبة قاتمة في عام 2011 عندما قام الأسد بالأمر ذاته، قبل اعتماد الدستور السوري لعام 2012.
إن ممارسة حرية التجمع السلمي ستبقى غير كافية في سوريا إذا لم تقترن بممارسة الحقوق المدنية والسياسية المتصل بها؛ فحرية التجمع السلمي ما هي إلا مجرد أداة ينبغي استخدامها للاعتراف بمجموعة واسعة من الحقوق الأخرى المتشابكة، مثل حرية التعبير و تكوين الجمعيات، والأهم من ذلك المشاركة السياسية. وعادة ما يفسر السوريون الحرمان الممنهج من المشاركة السياسية على أنه علامة ومؤشرا على القمع. وتلعب المشاركة في الشأن العام دوراً حاسماً في تعزيز الديمقراطية والنهوض بحقوق الإنسان في البلاد. والأهم كون المشاركة نفسها أحد العناصر الأساسية التي تهدف إلى القضاء على التهميش والتمييز، حيث أنها تسمح للسلطات بفهم القضايا والمظالم الخاصة بمختلف قطاعات وفئات المجتمع. وسيؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى عملية صنع قرار أكثر استدامة ومساءلة وشفافية، الأمر الذي سيعزز بلا شك شرعية قرارات الدولة وملكية جميع أفراد المجتمع لبلادهم. يتوق السوريون إلى نظام حكم تشاركي، وهم لن يعطون الشرعية لأي قرار ينبع من ممثلين أو لجان غير منتخبة.