يقدم الإعلان الدستوري الانتقالي الجديد الذي طرحته قيادة الأمر الواقع في سوريا صورة متناقضة في ذاتها: صورة تدعي الالتزام بحقوق الإنسان الدولية بينما تعزز السلطة المركزية ذات المرجعية الدينية. ويثير هذا التوتر أسئلة ملحة حول الفضاء المدني وحماية الأقليات والأمل الهش في إعادة بناء المجتمع المدني في سوريا في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد.
تاريخ مختصر لـ “هيئة تحرير الشام”
أصبح أحمد الشرع، المعروف أيضًا باسمه الحركي الجولاني، الرئيس الفعلي ثم الرئيس الانتقالي الحالي لسوريا بعد الهجوم الكاسح الذي شنه في أواخر عام 2024 والذي أدى لانهيار نظام الأسد.
شارك من قبل في نشاطات مع تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة وجبهة النصرة، ثم شكل الشرع “هيئة تحرير الشام” في سوريا، بهدف الإطاحة ببشار الأسد. وفي نهاية المطاف، شكلت هيئة تحرير الشام “حكومة الإنقاذ السورية” في إدلب كفرع مدني لها بحكم الأمر الواقع.
ومع ذلك، تعرضت الهيئة لانتقادات بسبب فرضها للسيطرة بالعنف على تلك المنطقة وتطبيقها للشريعة الإسلامية الصارم هناك.
الطريق أمام حقوق الإنسان في سوريا
لقد أخذ الشرع مؤخراً في استخدام مصطلح “المكونات” بدلاً من “الأقليات” في خطاباته عند الإشارة إلى المجموعات العرقية والدينية المتنوعة في البلاد، مما يعني ضمناً وجود حركة وطنية جامعة للفترة الانتقالية. ومع ذلك فإن العديد من أنصار الشرع يشيدون بانبعاث أو صعود دولة أموية جديدة، وهو ما يثير قلق الأقليات غير المسلمة.
تثير بعض التفاصيل في “الإعلان الدستوري” الأخير الذي أعلنه الشرع شيئا من الدهشة. فعلى سبيل المثال، غالباً ما تستخدم الدول الأخرى في المنطقة مصطلحات غامضة مثل “المبادئ الإسلامية” في دساتيرها للإشارة إلى ما تستند إليه في تشريعاتها، إلا أن الحكومة السورية الجديدة اختارت بدلاً من ذلك مصطلح “الفقه الإسلامي” الأكثر تحديداً كمصدر رئيسي لتشريعات الدولة، وقد كان هذا المصطلح موجوداً في دستور سوريا للعام 1950 )حيث نص في المادة الثالثة من فصله الأول أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع.”، لكن وقتها لم يكن هناك رئيس “إسلامي” يجلس في القصر الرئاسي، (وإن نص على كون دين رئيس الجمهورية هو الإسلام) ويعين أعضاء المحكمة الدستورية العليا. ويشي هذا الاختيار بترسيخ أعمق للمذهب القانوني الديني في الشؤون المدنية، مما يثير مخاوف بشأن التعددية وحماية الجميع على قدم المساواة.
كما يلقي مصطلح “الفقه الإسلامي” بظلال من الشك على آفاق حماية حقوق الأقليات، ومع ذلك يوجد في نفس الإعلان ضمانة غريبة لحرية “المعتقد” وليس “الإيمان”. وغالبًا ما يشير الإيمان إلى الجماعات الدينية المعترف بها بينما يمكن يفسر المعتقد على أنها حرية شخصية. وينص البند نفسه أيضاً على أن “تحترم الدولة جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها، شريطة ألا يخل ذلك بالنظام العام”.
ومن بوسعه أن يفسر عبارة “ما يمكن أن يشكل إخلالاً بالنظام العام” سوى المحكمة الدستورية العليا التي يهيمن عليها الإسلاميون. فوفقًا للمادة 47 من الإعلان الصادر في 13 مارس/آذار 2025، “يعين رئيس الجمهورية (منفردا، دون أي تدخل من البرلمان أو أي جهة أخرى) أعضاء المحكمة السبعة “ويشترط في كل منهم النزاهة والكفاءة والخبرة”. لكن يبقى الشك قائماً عما إذا كان اختيار هؤلاء المعينين نزيهاً وغير متحيز حقاً.
كما يطرح الإعلان (والذي يحدد مدة المرحلة الانتقالية في سوريا بخمس سنوات) بنداً تقليدياً محافظاً في المادة 21 منه، وهو “تحافظ الدولة على الوضع الاجتماعي للمرأة وتحمي كرامتها ودورها داخل الأسرة والمجتمع”، لكنه يشدد أيضاً على دور المرأة في التعليم والقوى العاملة، وفي بند آخر يحظر صراحةً التمييز بين الجنسين. يؤكد هذا التناقض على الغموض بين الالتزامات الرمزية بالمساواة بين الجنسين والحفاظ الفعلي على المعايير التقليدية التي تعطي الهيمنة للذكور.
ويظل هناك أمل في تدوين دستور جديد مناسب في نهاية الفترة الانتقالية بقدر أقل من الالتباسات وبأيديولوجية أكثر وضوحًا وراءه، إلا أن ذلك قد يكون صهب المنال بسبب الطبيعة الحساسة للمجتمع السوري المتنوع.
وتعكس هذه الالتباسات القانونية نمطًا أوسع نطاقًا، نطاق توجد فيه الحقوق الرمزية “على الورق”، لكنها قد تخضع للتفسير السلطوي عند تطبيقها عمليا.
تركيز السلطات وتقلص الفضاء المدني
وتمنح المادة 24 من الإعلان رئيس الجمهورية سلطة “تشكيل لجنة عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب”، كما أنه يعين مباشرة ثلث أعضاء المجلس “لضمان عدالة التمثيل والكفاءة”. وهذه أداة سياسية قوية تمكّن الشرع الارتكان لفصيل كبير موالٍ له داخل الهيئة التشريعية.
علاوة على ذلك، تسمح المادة 41 للرئيس بإعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر في حالة وجود “خطر جسيم ومباشر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن واستقلاله، أو يعوق مؤسسات الدولة عن القيام بواجباتها الدستورية”. هذه الفقرة غامضة وفضفاضة بشكل خاص، وتذكرنا بالمادة 80 سيئة السمعة من الدستور التونسي لعام 2014 التي سمحت لقيس سعيد بتعليق البرلمان والبدء في عملية وتجميع السلطة في يده.
لكن الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو ما تضعه المادة 23 من قيود على الحقوق والحريات، مبررًة ذلك بمفاهيم فضفاضة مثل “الأمن القومي والآداب العامة والنظام”. كما تسمح هذه المادة لرئيس الجمهورية بممارسة سلطات الطوارئ حتى مع غياب حالة طوارئ فعلية بالبلاد، مما يلغي عمليًا الحريات الفردية المنصوص عليها في الإعلان الدستوري.
في تاريخ سوريا، غالبًا ما كانت الطبقة السياسية في سوريا تتفوق على غيرها من خلال فيلق الضباط الطموحين الذين صاغوا مصير سوريا الحديثة منذ الستينيات من خلال قائمة طويلة من الانقلابات والانقلابات المضادة. قد يكون الشرع وحلفاؤه بخلفيتهم شبه العسكرية عائقاً أمام إتاحة المجال أمام المجتمع المدني للعمل بحرية وتمكين طبقة سياسية “صحية” من الظهور.
حداثة قانونية للمجتمع المدني وحقوق الإنسان
إلا أن المجتمع المدني في سوريا قد يجد نفسه في بيئة أفضل ليزدهر، فوفقاً للمادة 14 من الإعلان الدستوري “تكفل الدولة عمل الجمعيات والنقابات”. وهذا يمثل ضمانة قانونية لنشاط الجمعيات على الأراضي السورية، على أمل أن يطبق القانون ولا يبقى حبراً على ورق.
كما يتضمن الإعلان أيضًا المادة 12 التي لها وضعها الخاص جدًا بالنسبة لسلطة عربية حيث تنص على أن “جميع الحقوق والحريات الواردة في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية تعتبر جزءًا لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري”.
وللعلم، فإن سورية حالياً هي دولة طرف في الاتفاقيات التالية: الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (صدقت دمشق على الاتفاقيات الثلاث عام 1969)، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (2004)، واتفاقية حقوق الطفل (1993) وغيرها من الاتفاقيات.
يضمن الدستور المؤقت المستند إلى المادة 12، نظريًا، عدم انتهاك أي من قوانين الدولة لجميع الاتفاقيات المذكورة أعلاه. وهي خطوة إيجابية إلى الأمام نظريا على الأقل، من ناحية نهج حكم يتبنى التعددية والإنسانية.
بالإضافة إلى ذلك، تكفل المادة 18 “الكرامة الإنسانية وحرمة الجسد” وتحظر الاختفاء القسري وأي نوع من أنواع التعذيب، ولا يوجد قانون تقادم بشأنها أو استثناءات، وهو ما يمهد الطريق لمحاكمة منتهكي النظام القديم المتورطين في عمليات اختطاف المعارضين السياسيين والمدنيين.
يمكن لهذه المواد والبنود أن تبني الثقة لدى جماعات الأقليات والتقدميين في سوريا، حيث لا يزال الشك والخوف قائماً لديهم فيما يتعلق بنهج الإسلاميين المتشددين عندما يتعلق الأمر بإعادة بناء دولة متنوعة لديها تاريخ طويل من العنف الطائفي. وعلاوة على ذلك، يمكن تفسيرها أيضًا على أنها رسالة إلى المجتمع الدولي بأن ديكتاتورية الأسد قد رحلت وحل محلها شيء مختلف، على الأقل فيما يتعلق بالتعددية وحماية حقوق الإنسان.
ماذا ينتظر المجتمع المدني؟
استناداً إلى المادة 14 من الإعلان، يُسمح قانوناً للجمعيات السورية بالتشكيل والعمل وممارسة النشاط داخل الأراضي السورية، لحماية الحقوق والحريات المذكورة في المادة 12 والمكفولة في الاتفاقيات (الدولية) المتعددة التي صادقت عليها الجمهورية السورية، والدفاع عنها. ولكن نظراً للقيود المفروضة على الحريات الفردية وفقاً للمادة 23، يجد المجتمع المدني السوري نفسه عرضة لضغوط الدولة فيما يتعلق بالمواضيع الحساسة التي قد تفسر على أنها مسائل تتعلق بأمن الدولة.
نظريا، سيكفل القانون للناشطين السوريين الحق في المشاركة السياسية والدعوة المجتمعية، إلا أن المبررات القانونية للاعتقالات التي أقرها القضاء لا تزال قائمة، وهي تمثل عقبة أمام النشاط المدني في ظل دولة جديدة يهيمن عليها تنظيم له تاريخ من الانتهاكات خلال فترة حكم إدلب.
في المستقبل القريب، سيجد المجتمع المدني السوري إطارًا قانونيًا أفضل للعمل من خلاله فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السابق، وكذلك حماية حقوق الأقليات حاليا. لكنه يجب الآن أن يبقى المجتمع المدني واعيا سياسياً للوضع السائد إذ لا تزال القيود القانونية قائمة، مبرَّرة ببنود غامضة خلال فترة انتقالية حساسة.
الخلاصة
من الناحية القانونية يمثل الدستور الانتقالي إطارًا متناقضًا ، ففي حين يعزز المعاهدات الدولية والحريات المدنية، فإنه في الوقت نفسه يقوي السيطرة الرئاسية ويقيّد المعارضة. قد يجد المجتمع المدني السوري أدوات جديدة للعمل ضمن هذا الإطار ولكن يجب أن يسير بحذر في مناخ سياسي متقلب. إن وضع دستور دائم دستور دائم أكثر تماسكاً ووضوحاً سيكون ضرورياً لضمان التعددية الحقيقية والمساءلة والسلام المستدام.