في ظل تسارع وتيرة القمع في مصر وانحسار المساحة المدنية إلى حدود الاختناق، يصبح من الضروري أن يُطرح مجددًا هذا السؤال: لماذا تُصرّ الدولة على تجريم الحق في التظاهر؟ وما الكلفة التي يتحملها من يمارس حقه في التعبير والتجمّع السلمي؟ هذا النص يعيد قراءة العلاقة بين النصوص الدستورية والممارسة الأمنية اليومية، ويفكّك الآليات التي تُحوّل الحقوق المضمونة إلى مساحة مفتوحة للقمع والإفلات من المحاسبة.
فالحق في التجمع السلمي وحرية التظاهر لا يمثلان مجرد امتداد لحقوق الإنسان كما تنص عليها المواثيق الدولية، بل يشكلان شرطًا أساسيًا لوجود حياة سياسية حقيقية، ومساحة مدنية تتيح للمواطنين والمواطنات التعبير والمشاركة والمساءلة. هذه الحقوق هي بوابة المشاركة الديمقراطية، والضمانة الأهم ضد احتكار السلطة.
لم تكتفِ الدولة بإهمال هذا الحق، بل عملت على إعادة تعريفه قانونيًا بما يُفرغه من مضمونه، مستخدمة التشريع والأمن والقضاء كأدوات متكاملة لتجريم الفعل المدني. لم يعد التظاهر فعلًا مشروعًا بل أصبح في نظر السلطة تهديدًا يستوجب الردع، ومصدر قلق أمني يستدعي الضبط. فالقانون رقم 107 لسنة 2013، بدلًا من أن ينظم هذا الحق، يُستخدم لتقويضه وتحويل ممارسيه إلى متهمين.
هذا التحول لا يُفهم بمعزل عن منطق الدولة في التعامل مع الشارع، منطق يرى في كل حراك جماهيري نذير خطر، وفي كل صوت مستقل مشروع تمرد. إن هاجس السلطة المستمر وتوجسها العميق من الحراك الشعبي يتجلى بوضوح في النصوص القانونية والممارسات الأمنية، وينتج بيئة تشريعية تُجرّم التحركات السلمية وتسعى إلى تفريغ الفضاء العام من أي محتوى سياسي مستقل.
في هذا السياق، يتجاوز الحديث عن الحق في التظاهر كونه مجرد نقاش قانوني تقني، ليصبح مدخلاً أساسياً لفهم جوهر الأزمة السياسية في مصر، حيث تصادر الدولة أدوات التعبير العام وتخضع الممارسة السياسية لمنطق السيطرة والضبط بدلاً من التفاوض والمشاركة. هذا النهج يعكس رؤية سلطوية ترى في التعددية تهديداً، وفي المطالب الشعبية خطراً محتملاً يستوجب الاحتواء والتقييد، لا التفاعل والاستجابة.
أولاً: استخدام القانون كأداة للتجريم السياسي
يتجاوز تجريم التظاهر كونه مجرد إجراء قانوني عابر، ليشكل ركيزة أساسية في مشروع متكامل لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع. فمن خلال منظومة تشريعية مقيدة، وعلى رأسها قانون التظاهر، تسعى الدولة ليس فقط إلى ضبط الفضاء العام، بل إلى تفريغه تماماً من أي محتوى سياسي مستقل عن توجهاتها.
في ظل هذه المنظومة، تتحول الحقوق الدستورية من استحقاقات أصيلة إلى منح استثنائية رهينة بموافقة السلطة. يتحول الإخطار المسبق، الذي يفترض أنه إجراء تنظيمي، إلى آلية ترخيص فعلية، ويصبح التجمع السلمي – المكفول دستورياً وقانونياً – جريمة يعاقب عليها القانون. هذه التشريعات لا تهدف إلى تنظيم الممارسة الاحتجاجية، بل تحاصرها بشروط تعجيزية تفرغها من مضمونها وتعطل فاعليتها.
المسألة هنا تتخطى مجرد قصور تشريعي، لتعكس رؤية سياسية تسعى لاحتكار تعريف المصلحة العامة وتحديد أطرها. فالدولة، التي تجمع بين صفتي الخصم والحكم في آن واحد، تمنح نفسها سلطة تحديد شرعية التظاهر من عدمها، وتقرير ما إذا كان التعبير السياسي متوافقاً مع مفهومها للنظام العام. وفي غياب معايير موضوعية وشفافة، تصبح كل أشكال الاحتجاج المدني موضع ريبة، وتتحول ممارسة الحقوق المدنية إلى ما يشبه التهديد الأمني الذي يستوجب المواجهة.
الإطار القانوني والتشريعي للحق في التجمع السلمي وحرية التظاهر في مصر
- الدستور المصرى لعام 2014:
يستند الإطار القانوني والتشريعي المنظم للمساحة وحرية التجمع السلمي في مصر إلى مجموعة من النصوص الدستورية والقوانين التنظيمية. دستور عام 2014، المُعدل في عام 2019، هو الوثيقة القانونية الأسمى في البلاد. تنص المادة (73) منه على أن “للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة، والمواكب والتظاهرات السلمية، غير حاملين سلاحًا من أى نوع، بإخطار على النحو الذي ينظمه القانون. وحق الاجتماع الخاص سلميًا مكفول، دون حاجة إلى إخطار سابق، ولا يجوز لرجال الأمن حضوره أو التنصت عليه”. هذه المادة، رغم إقرارها بالحق في التجمع السلمي، إلا أنها تربط ممارسة هذا الحق في الفضاء العام بـ “إخطار على النحو الذي ينظمه القانون”، وهو ما يفتح الباب أمام تفسيرات وقيود قانونية قد تحد من هذا الحق بشكل كبير.
كما تكفل المادة (75) من الدستور حرية تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي، وتثبت لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار. وتنص على أنه “لا يجوز للجهات الإدارية التدخل فى شئونها، أو حلها أو حل مجالس إداراتها أو مجالس أمنائها إلا بحكم قضائي”. ومع ذلك، فإن قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي رقم 149 لسنة 2019 يفرض قيوداً وتحديات كبيرة على عمل المنظمات غير الحكومية، مما يثير تساؤلات حول مدى التزام القانون بالنص الدستوري وروحه.
أضف إلى ذلك،ما يتضمنه الدستور من مواد أخرى تتعلق بحرية الرأي والتعبير (المادة 65)، وحرية الصحافة والإعلام (المادة 70 و 71)، والحق في الخصوصية (المادة 57)، وهي حقوق وثيقة الصلة بقدرة المجتمع المدني على العمل بحرية وفعالية. ومع ذلك، فإن الإطار القانوني العام والممارسات العملية غالباً ما تقوض هذه الضمانات الدستورية.
- قانون تنظيم الحق فى الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات ( قانون التظاهر)
صدر القانون رقم 107 لسنة 2013، المعروف إعلامياً بـ “قانون التظاهر”، لينظم ممارسة الحق في التجمع السلمي. وقد أثار هذا القانون جدلاً واسعاً وانتقادات حقوقية دولية ومحلية منذ صدوره، نظراً للقيود الصارمة التي يفرضها. يشترط القانون تقديم إخطار كتابي إلى قسم أو مركز الشرطة الذي يقع بدائرته مكان الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة، وذلك قبل بدئها بثلاثة أيام عمل على الأقل. ويجب أن يتضمن الإخطار بيانات محددة حول مكان وموعد التجمع وموضوعه وشعاراته. والأهم من ذلك، يمنح القانون وزير الداخلية أو مدير الأمن المختص سلطة منع الاجتماع أو الموكب أو التظاهرة أو إرجائها أو نقلها أو تغيير مسارها، إذا تبين أن من شأنها “الإخلال بالأمن أو النظام العام”، وهي عبارات فضفاضة وقابلة للتأويل بشكل واسع. في عام 2017، قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية المادة العاشرة من قانون التظاهر، التي كانت تمنح وزير الداخلية سلطة منع التظاهرات دون الرجوع إلى القضاء. ورغم هذا الحكم، لا تزال السلطات الأمنية تمارس صلاحيات واسعة في منع وقمع التظاهرات، مما يثير تساؤلات حول فعالية هذه التعديلات في حماية الحقوق الدستورية
كما يفرض القانون عقوبات مشددة على المخالفين لأحكامه، تصل إلى الحبس والغرامة. وقد استخدم هذا القانون بشكل واسع لتجريم التجمعات السلمية وملاحقة النشطاء والمشاركين فيها، مما أدى إلى تقليص كبير في مساحة التعبير والتجمع في الفضاء العام.
- قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلى ( قانون الجمعيات الأهلية رقم 149 لسنة 2019)
جاء القانون رقم 149 لسنة 2019 ليحل محل القانون رقم 70 لسنة 2017، الذي كان قد واجه انتقادات شديدة لتقييده عمل منظمات المجتمع المدني. وعلى الرغم من أن القانون الجديد قد ألغى بعض الأحكام الأكثر تقييداً في سابقه، إلا أنه لا يزال يتضمن العديد من القيود التي تعيق استقلالية وحرية عمل الجمعيات الأهلية. فإجراءات التسجيل لا تزال معقدة وتخضع لتقدير الجهات الإدارية. كما يفرض القانون قيوداً كبيرة على تلقي التمويل الأجنبي، حيث يتطلب موافقة مسبقة من الجهة الإدارية، ويمكن رفض الطلب دون إبداء أسباب واضحة في بعض الأحيان. وتخضع المنظمات لرقابة واسعة من قبل الجهة الإدارية، التي لها صلاحيات واسعة في التدخل في شؤونها الداخلية، بل وفي حلها في بعض الحالات.
وقد انتقدت العديد من المنظمات الحقوقية هذا القانون لعدم توافقه مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان المتعلقة بحرية تكوين الجمعيات، ولأنه يكرس هيمنة الدولة على المجتمع المدني بدلاً من تمكينه.
- قوانين أخرى ذات تأثير
إلى جانب القوانين المذكورة أعلاه، هناك قوانين أخرى تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على المساحة المدنية وحرية التجمع السلمي. من بينها قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015، الذي يتضمن تعريفات فضفاضة للإرهاب والجرائم الإرهابية، مما يسمح باستخدامه لملاحقة النشطاء السلميين والمدافعين عن حقوق الإنسان. كما أن قانون العقوبات يتضمن مواد تتعلق بـ “إهانة المؤسسات” أو “نشر أخبار كاذبة”، والتي تستخدم أحياناً لتقييد حرية التعبير والنقد. وفي حال سريان حالة الطوارئ، فإن قانون الطوارئ يمنح السلطات صلاحيات استثنائية واسعة تقيد الحقوق والحريات بشكل كبير.
مدى توافق التشريعات المصرية مع المعايير الدولية
يثير الإطار القانوني المصري الحالي تساؤلات جدية حول مدى توافقه مع التزامات مصر الدولية بموجب المعاهدات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. فالمادة (21) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تكفل الحق في التجمع السلمي، ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقاً للقانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم. وبالمثل، تكفل المادة (10) من الميثاق الأفريقي الحق في حرية تكوين الجمعيات، والمادة (11) الحق في حرية التجمع السلمي.
تشير العديد من التقارير الحقوقية إلى أن القيود المفروضة في التشريعات المصرية تتجاوز ما هو مسموح به بموجب القانون الدولي، وأنها لا تستوفي شرط “الضرورة” في مجتمع ديمقراطي. كما أن العقوبات المشددة المفروضة على ممارسة هذه الحقوق تعتبر غير متناسبة.
ثانياً: الممارسة كآلية للردع الجماعي
على أرض الواقع، تتجسد النصوص القانونية المقيدة في ممارسات أمنية بالغة القسوة والعنف. فالاعتقالات العشوائية، وتفريق التجمعات السلمية باستخدام القوة المفرطة، وظاهرة التدوير القضائي (إعادة حبس المفرج عنهم على ذمة قضايا جديدة)، إلى جانب حملات التشهير الإعلامية المنظمة، كلها تشكل منظومة متكاملة تهدف إلى ترسيخ الخوف وتعميمه في النسيج المجتمعي. الرسالة التي تبثها هذه الممارسات واضحة وصريحة: مجرد التفكير في ممارسة حق التظاهر قد يكلف المواطن حريته، أو مصدر رزقه، أو حتى سلامته الجسدية.
في هذا السياق، تتجاوز الأجهزة الأمنية دورها التنفيذي المفترض لتتحول إلى فاعل سياسي مباشر، لا يعمل كجهة منوط بها تطبيق القانون، بل كطرف يفرض رؤيته وإرادته من خلال آليات القمع والترهيب. بالتوازي، تتحول مؤسسات العدالة، وعلى رأسها النيابات، إلى منصات لإضفاء الشرعية على ممارسات الإخفاء القسري والحبس الاحتياطي المطول، تحت ذرائع فضفاضة مثل الحفاظ على الأمن القومي ومكافحة الإرهاب.
هذا الاستخدام المفرط والممنهج لسلطات الدولة القسرية لا يقوض مبدأ سيادة القانون فحسب، بل يؤسس لحالة استثناء دائمة تصبح فيها الانتهاكات الاستثنائية هي القاعدة، والضمانات القانونية هي الاستثناء. وبذلك يتحول الردع من إجراء محدود موجه ضد مخالفين محددين، إلى آلية جماعية تستهدف المجتمع بأكمله، وتسعى إلى تطويع إرادته الجمعية وإعادة تشكيل وعيه بما يتوافق مع رؤية السلطة.
التحديات الأمنية و استخدام القضاء كأداة قمع.
يشكل الإطار القانوني القائم تحدياً رئيسياً، قانون التظاهر، بشروطه الصارمة وسلطاته الواسعة الممنوحة للأجهزة الأمنية، يقيد بشكل كبير الحق في التجمع السلمي. وبالمثل، فإن قانون الجمعيات الأهلية، بإجراءاته المعقدة وقيوده على التمويل والرقابة الواسعة، يخلق بيئة طاردة للعمل الأهلي المستقل. هذه القوانين، بالإضافة إلى استخدام قوانين أخرى مثل قانون مكافحة الإرهاب بشكل تعسفي، تساهم في خلق مناخ من الخوف والتردد لدى النشطاء ومنظمات المجتمع المدنى. حتى في ظل وجود بعض الضمانات القانونية، فإن الممارسات على أرض الواقع غالباً ما تكون أكثر تقييداً.
يدفع الأفراد فى مصر اثمانا باهظة من حياتهم وحريتهم مقابل ممارسة حقهم الدستوري في التظاهر والتجمع السلمي. حيث وثقت العديد من المنظمات الحقوقية، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، الاستخدام المفرط وغير الضروري للقوة من قبل قوات الأمن المصرية لتفريق التظاهرات السلمية. يشمل ذلك استخدام الغاز المسيل للدموع بكثافة، وطلقات الخرطوش، وفي بعض الحالات استخدام الرصاص الحي، مما أدى إلى مقتل وإصابة العديد من المتظاهرين. وأشارت هيومن رايتس ووتش (2019) إلى أن أجهزة الأمن لجأت “مرة تلو المرة إلى القوة الغاشمة في سحق المظاهرات السلمية. قُتلت الناشطة شيماء الصباغ، وهي عضو في حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، بالخرطوش في 24 يناير 2015 أثناء مشاركتها في مسيرة صغيرة وصامتة لوضع الزهور في ميدان التحرير إحياءً لذكرى شهداء ثورة يناير. على الرغم من الطابع السلمي الواضح للمسيرة، تدخلت قوات الأمن لتفريقها بالقوة. أثارت الحادثة غضباً واسعاً، وعلى الرغم من إدانة ضابط شرطة في البداية بتهمة “الضرب الذي أفضى إلى موت”، إلا أنه تمت تبرئته لاحقاً في الاستئناف، مما عزز الشعور بالإفلات من العقاب على استخدام القوة المفرطة.
كما أن الممارسات الأمنية تعتبر التحدى الأكبر فى مواجهة المساحة المدنية، غالباً ما يتم التعامل مع التجمعات السلمية، حتى تلك التي تحصل على الموافقات بشكل قمعي من قبل قوات الأمن. يتضمن ذلك الاستخدام المفرط للقوة، والاعتقالات التعسفية، والملاحقات القضائية للمشاركين. وتُغلق السلطات الباب أمام أي دعوات لتجمعات تهدف إلى إحياء ذكرى ثورة 25 يناير، بل وتصعّد من حملات الاعتقال العشوائي للأفراد قبيل حلول الذكرى السنوية. وقد استمرت حملات الاعتقال على مدار السنوات الماضية في سياقات متعددة، مستهدفةً مختلف التيارات والتوجهات، حيث لاحقت قوات الأمن الطلاب والعمال والنشطاء والأفراد العاديين على حد سواء.
وفي مثال حديث، على إثر دعوات للتظاهر يوم 11 نوفمبر فيما عُرف بـ”ثورة المناخ”، والتي تزامنت مع انعقاد مؤتمر المناخ في مصر في نوفمبر 2022، ألقت قوات الأمن القبض على عشرات المواطنين والمواطنات من منازلهم. وتم التحقيق معهم أمام نيابة أمن الدولة التي أمرت بحبسهم احتياطيًا لمدد بدأت بستة أشهر، وتجاوزت في بعض الحالات العامين.
ففي 23 أبريل 2024، نظّمت مجموعة من الناشطات والناشطين وقفة احتجاجية سلمية أمام المكتب الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة في حي المعادي بالقاهرة، للتعبير عن تضامنهم مع النساء في فلسطين والسودان، والمطالبة بوقف العدوان على غزة والحرب في السودان. خلال الوقفة، قامت قوات الأمن المصرية بتفريق التجمع واعتقال ما لا يقل عن 16 شخصًا، بينهم صحفيات وناشطات بارزات مثل راجية عمران، ماهينور المصري، رشا عزب، وإيمان عوف، بالإضافة إلى الصحفيين يوسف شعبان ومحمد فرج. وجّهت نيابة أمن الدولة لهم اتهامات بالتجمهر والانضمام إلى جماعة أسست على خلاف القانون، في القضية رقم 1567 لسنة 2024، في اليوم التالي، قررت نيابة أمن الدولة العليا إخلاء سبيل جميع المعتقلين بكفالات مالية تراوحت بين 5,000 و10,000 جنيه مصري، بينما أُخلي سبيل البعض الآخر بضمان محل الإقامة.
كما وقعت حملة اعتقالات واسعة خلال احتجاجات 20 سبتمبر 2019 و 2020 إذ ألقت قوات الأمن القبض على نحو أربعة آلاف مواطن بشكل عشوائي، وفقًا لتقارير المنظمات الحقوقية. ولم تقتصر آلة القمع على الاعتقالات العشوائية من الشوارع، بل امتدت لتشمل المحامين الحقوقيين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، بمن فيهم الذين يقدمون الدعم للمعتقلين السياسيين. إذ تم استهداف المحامي الحقوقي محمد الباقر، والمحامية ماهينور المصري، والصحفية إسراء عبد الفتاح، ومحمد صلاح، وسلافة مجدي، وآخرين في أعقاب هذه الاحتجاجات. ومؤخرا ألقت قوات الأمن القبض على عدد من المتظاهرين خرجوا للتعبير عن رفضهم للابادة التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة ودعما لفلسطين، ووجهت لهم اتهامات بالانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة والاشتراك فى تجمهر يهدد السلم والأمن العام. أسهمت كل هذه الممارسات الأمنية في خلق حالة من الخوف والقلق، ما قيد قدرة المواطنين على ممارسة حقهم في التعبير والتجمع.
أضف الى ذلك غياب استقلالية القضاء واستخدامه كأداة في يد السلطة لقمع الأفراد بداية من عدم قبول التظلمات على قرارات المنع من التظاهر وصولا إلى إصدار أحكام قاسية بالسجن تصل لسنوات على المتظاهرين السلميين والنشطاء والحقوقيين، بعد محاكمات غير عادلة خالية من كافة الضمانات القانونية، مما يعمق ازمة الثقة في منظومة العدالة.
يُشار إلى أن نيابة أمن الدولة العليا ومحاكم الإرهاب في مصر قد لعبتا دورًا في إضفاء غطاء قانوني على التجاوزات والممارسات غير القانونية التي تقوم بها الأجهزة الأمنية بحق المواطنين والمتظاهرين السلميين. فمنذ عام 2018، أصبحت النيابة هي الجهة المسؤولة عن التحقيق في كافة القضايا المتعلقة بالتظاهر والتجمعات السلمية. وقد قامت بإصدار أوامر حبس احتياطي بحق متظاهرين دون وجود أدلة قانونية كافية، ووفقا لشهادات عدد من المحبوسين استخدم أعضاء نيابة أمن الدولة أسلوب التهديد و ترهيب المعارضين الذين يمثلون أمامهم للتحقيق لإجبارهم على الإدلاء باعترافات خاصة صغار السن منهم. كما هو الحال فى العديد من القضايا تجسد القضية رقم 488 لسنة 2019 نمطا متكررا من الانتهاكات، حيث تم التحقيق مع عدد من الشباب بعد القبض عليهم لمشاركتهم فى تظاهرة أعقبت حادث حريق محطة مصر، وشملت القضية أطفالا دون سن الثامنة عشر الى جانب عدد من الشباب، وقد استخدم وكلاء النيابة التهديد بالتعذيب والتشهير كوسائل ضغط على لإجبارهم على الإدلاء باعترافات.
وفي السياق ذاته، تعرّض المتهمون في القضية رقم 277 لسنة 2019 للاعتقال على خلفية دعوتهم للتظاهر في ذكرى 25 يناير 2019. وواجهوا بعد القبض عليهم سلسلة من الانتهاكات، منها الاختفاء القسري والتعذيب، كما مارست النيابة العامة ضغوطًا مباشرة عليهم، وحققت مع عدد منهم دون حضور محامين، في انتهاك واضح للضمانات القانونية. ورغم مرور أكثر من ست سنوات، لا يزال عدد كبير من المتهمين قيد الحبس حتى اليوم.
أما القضية رقم 1739 لسنة 2019، فقد شملت اعتقال عدد من النشطاء على خلفية الاحتجاجات العفوية بعد حادث قطار رمسيس، ومن بينهم الناشط خالد بسيوني، والناشطة العابرة جنسيًا ملك الكاشف، وآخرون من العابرين والعابرات جنسيًا. وكان أبرز الانتهاكات حينها إيداع ملك في الحبس الانفرادي بعنبر الزراعة بسجن طرة، بسبب عدم الاعتراف الرسمي بهويتها الجندرية، حيث لا تزال أوراقها الثبوتية تُظهر أنها “ذكر”. وقد أثار هذا الوضع انتقادات حقوقية واسعة بشأن معاملة العابرين والعابرات جنسيًا في أماكن الاحتجاز.
تُعد تظاهرات 20 سبتمبر 2019 الحدث الأبرز في تاريخ نيابة أمن الدولة العليا، حيث فتحت النيابة تحقيقات مكثفة خلال الفترة من 22 إلى 30 سبتمبر مع آلاف المواطنين على خلفية مشاركتهم في الاحتجاجات، وذلك وفقاً لتقارير منظمات حقوقية. وقد تم توزيع المتهمين على عدة قضايا، كانت أبرزها القضية رقم 1883 لسنة 2019، التي حُبس على ذمتها 2097 شخصًا احتياطيًا لفترات تراوحت بين شهرين وثلاث سنوات، من بينهم نساء وأطفال ومرضى وكبار سن. جاءت هذه الموجة من الاعتقالات عقب الدعوة التي أطلقها الفنان محمد علي للتظاهر يوم 20 سبتمبر في مختلف المحافظات، حيث شنت قوات الأمن حملات اعتقال عشوائية طالت المتظاهرين والمارة على حد سواء.
علاوة على ذلك، طبقت نيابة أمن الدولة على مدار السنوات السبع السابقة ما يعرف بـ”سياسة التدوير”، وهي ممارسة يتم من خلالها إعادة التحقيق مع الأفراد في قضايا جديدة بنفس التهم السابقة فور انتهاء فترة حبسهم، بهدف إبقائهم رهن الاعتقال لأطول فترة ممكنة. تعرض عدد كبير من النشطاء والمدافعين والمحامين للتدوير في أكثر من قضية.
وبالتزامن مع ذلك قامت دوائر الإرهاب ايضا بتجديد حبس آلاف المعتقلين في قضايا تظاهر لفترات تتجاوز الحد الأقصى المسموح به قانونًا للحبس الاحتياطي، وصدرت بحق هؤلاء المتظاهرين أحكامٌ قاسية تفتقر للعدالة والضمانات القانونية الأساسية. حيث أصدرت محكمة جنايات الإرهاب فى 15 يناير 2023 باعتبارها محكمة أمن دولة طوارئ أحكاما بالسجن المؤبد و 15 و 10 و 5 اعوام على 103 متهما فى القضية المعروفة بقضية الجوكر من بينهم أطفال، بسبب مشاركتهم في احتجاجات 20 سبتمبر 2019 فى السويس، وما زالوا في السجن حتى الآن، وتعرض عدد منهم للتدوير على ذمة قضايا جديدة بعد قضائهم مدة العقوبة المحكوم بها.
ثالثاً: الأثر السياسي والإنساني طويل المدى
تتجاوز تداعيات تجريم الاحتجاج حدود الانتهاكات الفردية لتطال بنية المجال العام بأكمله. فمع تراكم القيود والممارسات القمعية، يفقد المواطنون تدريجياً إحساسهم بالفاعلية السياسية، ويتحولون من مشاركين في صناعة القرار إلى مجرد متفرجين على مشهد سياسي يُدار من أعلى، دون قنوات حقيقية للمشاركة أو آليات فعالة للمساءلة. وفي مفارقة جديرة بالتأمل، حين تُكمم الأصوات ويُحاصر الفعل الجماعي، تصبح الدولة ذاتها أكثر هشاشة وأقل استقراراً، رغم المظهر الخارجي للقوة والسيطرة.
المقاربات الأمنية التي تعتمد تجريم الاحتجاج كحل وحيد لا تعالج الأسباب الجذرية للتوترات الاجتماعية، بل تؤجل مواجهتها وتفاقم حدتها. فهذه السياسات تراكم مشاعر الإحباط والغضب، وتحرم المجتمع من صمامات الأمان التي يوفرها التعبير السلمي، وتقوض الشرعية السياسية من داخلها. وكلما اتسعت الفجوة بين السلطة والمجتمع نتيجة القمع المستمر، تعمق الشعور بالاغتراب والانفصال عن مؤسسات الدولة، مما يخلق دائرة مفرغة من التباعد المتزايد.
على المستوى الإنساني، تنعكس آثار تجريم الاحتجاج في مصائر آلاف الأفراد الذين يتعرضون للاعتقال أو الملاحقة القضائية لمجرد تعبيرهم عن مواقفهم. هؤلاء لا يحرمون من حريتهم فحسب، بل يحرمون أيضاً من فرص المستقبل، ويتعرضون للتشويه الإعلامي المنهجي، وتمارس ضدهم سياسات الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي. وتتضاعف المأساة حين يمتد القمع ليطال المدافعين والمدافعات عن حقوق المتظاهرين والمتظاهرات من المحامين، أو حين يعاقب الصحفيون لمجرد نقلهم الحقيقة، مما يشكل حلقة إضافية في سلسلة تقويض الحريات الأساسية وإسكات الأصوات المستقلة.
رابعاً: منظمات المجتمع المدنى فى مصر
تواجه منظمات المجتمع المدني صعوبات كبيرة في الحصول على التراخيص اللازمة لممارسة أنشطتها، وتجد نفسها عالقة في شبكة معقدة من الإجراءات البيروقراطية التي تستنزف مواردها وتعطل عملها. هذا بالإضافة إلى القيود المفروضة على تلقي التمويل، خاصة من مصادر أجنبية، مما يحد من قدرتها على الاستمرار والنمو. وتتصاعد هذه التحديات لتشمل مضايقات أمنية واسعة، وصلت إلى حد اعتقال قيادات وعاملين في هذه المنظمات، مما أسفر عن إغلاق مؤسستين بارزتين في مجال حقوق الإنسان هما مركز عدالة للحقوق والحريات، بعد اعتقال مديره التنفيذي محمد الباقر على خلفية أحداث 20 سبتمبر، والتنسيقية المصرية للحقوق والحريات، إثر اعتقال مديرها عزت غنيم وأعضائها المحامين هدى عبد المنعم ومحمد أبو هريرة. يُضاف إلى ذلك، يتعرض العاملون في منظمات أخرى، لا سيما المحامون المدافعون عن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، لمضايقات مستمرة، كالاستدعاءات المتكررة للتحقيق غير الرسمي من قبل جهاز الأمن الوطني.
خاتمة
لا يمكن النظر إلى القيود المفروضة على حرية التظاهر والتجمع السلمي بمعزل عن السياق الأوسع لتقييد الحريات العامة في مصر خلال السنوات الأخيرة. فهذه القيود تأتي ضمن منظومة متكاملة من التشريعات والممارسات التي تستهدف تضييق المجال العام وإحكام السيطرة على المجتمع المدني والمعارضة السياسية. وقد أدى ذلك إلى إضعاف آليات المشاركة الشعبية في صنع القرار وتقليص فرص التعبير السلمي عن المظالم والمطالب، مما يزيد من احتمالات تراكم الاحتقان الاجتماعي والسياسي.
لقد أدى تطبيق قانون التظاهر منذ إصداره في نوفمبر 2013 إلى تقليص المساحة المتاحة للتعبير العام والاحتجاج السلمي بشكل كبير. فالنظام الذي يفترض أنه مجرد “إخطار” تحول عملياً إلى نظام “ترخيص” صارم، حيث تمتلك الأجهزة الأمنية سلطة تقديرية واسعة لمنع أي تظاهرة أو تجمع لا يروق لها. كما أن العقوبات القاسية التي يفرضها القانون، والتي تصل إلى السجن لسنوات، قد خلقت تأثيراً رادعاً قوياً يثني المواطنين عن ممارسة حقهم في التعبير الجماعي عن آرائهم ومطالبهم.
كما أن لممارسات الأمنية المتمثلة في استخدام القوة المفرطة لتفريق التظاهرات، والاعتقالات الجماعية للمشاركين، والملاحقات القضائية الواسعة، قد عززت مناخاً من الخوف والترهيب يحول دون ممارسة هذا الحق الأساسي. وقد أدى غياب المساءلة الفعالة عن انتهاكات حقوق المتظاهرين، بما في ذلك حالات القتل خارج إطار القانون، واستمرار تغوّل الأجهزة الأمنية، إلى تكريس ثقافة الإفلات من العقاب وتشجيع استمرار هذه الممارسات.