لأكثر من نصف قرن تحت حكم آل الأسد – الأب والابن – لم يسوّق النظام السوري قمعه للحريات السياسية؛ بل قام بشكل منهجي بتفكيك أيّ احتمال لقيام مجتمع مدني مستقل. إذ تحرك النظام متستراً بشعارات الحفاظ على الوحدة الوطنية وحماية الأمن والاستقرار، ليحتكر الفضاء العام والمدني، مستخدماً قوانين وأنظمة مُصمَّمة بالأساس بغرض تجريد النشاط المدني من معناه الحقيقي.
ومن بين تلك الأدوات القانونية، برز قانون الجمعيات لعام 1985 (الذي تبناه حافظ الأسد واعتمده) كأداة رئيسية للرقابة. وقد منحت التعديلات اللاحقة عليه، لا سيما تلك الواردة في الفصل الرابع، وزارة “الشؤون الاجتماعية والعمل” صلاحيات واسعة لحل أيّة جمعية أهلية ولأسباب فضفاضة، مثل تهديد الأمن العام، دون أدنى رقابة قضائية. وعمليًا: كان بوسع السلطات إغلاق أي مبادرة مدنية مستقلة بحجة الحفاظ على النظام.
وعلاوة على ذلك، أدخلت الحكومة قوانين إضافية لإحكام قبضتها على الحياة المدنية، مثل القانون رقم 33 لعام 1975، الذي منح الاتحادات التي تديرها/التي تحكم فيها الدولة مثل “الاتحاد النسائي العام” احتكارًا للنشاط في نطاق عملها. ومن ثم أصبح تشكيل منظمات مستقلة تعنى بقضايا المرأة خارج هذا الهيكل الرسمي أمراً مستحيلاً عملياً. وهكذا أصبح أيضًا المجتمع المدني في سوريا إما امتدادًا للحكومة أو أُجبر على عدم الوجود.
عقب تولى بشار الأسد السلطة عام 2000، شهدت سوريا لحظة انفتاح مدني قصيرة عرفت بـ “ربيع دمشق”، تميزت بنقاشات فكرية وسياسية حيوية لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم. اعتبرها البعض بوابة محتملة للتغيير الديمقراطي، لكن سرعان ما أنهى النظام هذه التجربة باعتقال أبرز رموزها واستئناف سياسات القمع.
انضمت سوريا لموجة الربيع العربي في مارس/ آذار 2011. ورغم الانحدار اللاحق إلى الصراع العنيف، فإن أحد أبرز إنجازات الثورة السورية كان انبعاث المجتمع المدني من جديد؛ فقد ظهرت مبادرات مدنية جديدة تعمل بشكل سري داخل سوريا وأخرى من الشتات تعمل بشكل أكثر علانية، وتدافع عن أهداف الثورة وتوثق انتهاكات النظام.
شكل سقوط النظام في 8 ديسمبر/ كانون أول 2024 نقطة تحول للمجتمع المدني السوري إذ وجدت الجهات الفاعلة المدنية، وللمرة الأولى منذ عقود، فرصةً للعمل بشكل علني داخل البلاد، كذا تغيرت أولويات وأدوار منظمات الشتات. يستكشف هذا المقال هذه التغيرات العميقة، ويقدم نظرة فاحصة على الفرص والتحديات التي تواجه المجتمع المدني السوري خلال هذه الفترة الانتقالية الحساسة في ظل الحكومة المؤقتة الحالية.
بين الوعد والوعيد: المجتمع المدني السوري في مرحلة ما بعد الأسد
بعيد سقوط نظام الأسد، قدمت نحو 44 منظمة أهلية مستقلة “مذكرةً قانونيةً” إلى حكومة تصريف الأعمال والقيادة العسكرية، وذلك قبل تشكيل الحكومة الانتقالية. وقد دعت الوثيقة إلى عملية انتقالية مُحددة زمنياً تستوعب الجميع، وتضمن مشاركة فعالة من المجتمع المدني، كما تضع الأساس لنظام سياسي ديمقراطي يلبي مطالب الثورة السورية.
وقد حددت هذه المنظمات سلسلة من الأولويات العاجلة للمرحلة الانتقالية، خاصة فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية. وشملت مطالبهم الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالفظائع (المرتكبة)، مع التركيز بشكل خاص على حماية مواقع المقابر الجماعية ومقار التعذيب. كما أكدوا على أهمية التعاون مع المنظمات الدولية والمحلية لمعالجة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في البلاد.
في الأيام الأولى، قوبلت هذه الجهود بانفتاح نسبي. ونظمت الجهات الفاعلة في المجتمع المدني – سواء تلك التي بقيت في سوريا أو تلك التي عادت من المنفى – محاضرات عامة وورش عمل ومشاورات. كانت هذه الفترة أشبه بصحوة مدنية لفترة وجيزة. لكن هذا الانفتاح لم يدم طويلاً. فبعد فترة وجيزة من تشكيل الحكومة الانتقالية، بدأت القيود في الظهور.
وقد أخبرنا أحد نشطاء المجتمع المدني، المقيم حالياً في فرنسا ولكنه سافر إلى سوريا عدة مرات منذ سقوط الأسد، أن الرقابة الحكومية قد استفحلت. فقد أصبحت المنظمات تُمنح الآن تصاريح مؤقتة لمدة ستة أشهر، وهي تراخيص لا تسمح لها بممارسة نشاطاتها بالكامل، وإن كانت تسمح بفعاليات أو أنشطة فردية بشكل مشروط. على سبيل المثال، لعقد حلقة نقاش أو منتدى مجتمعي، يُطُلب من المجموعات المدنية تقديم مقترحات مفصلة تتضمن مواضيع وعناوين وأسماء جميع المتحدثين والمساهمين. وفي عدة حالات، تم إلغاء فعاليات دون تفسير.
ويبدو أن فترة الستة أشهر هذه هي بمثابة نافذة اختبار تسمح للحكومة بمراقبة الفاعلين المدنيين وتتبع انتماءاتهم، وربما طمأنة الحكومات الأجنبية والدول التي تفرض العقوبات بأن سوريا تفتح المجال أمام المشاركة المدنية. لكن يخشى الكثيرون من أن تكون هذه مجرد واجهة مؤقتة، وأن قيوداً أعمق ستليها.
وقد خلقت هذه المراقبة مناخاً من عدم اليقين والخوف بين جماعات المجتمع المدني التي يدرك الكثير منها أصداء التكتيكات الاستبدادية التي كانت تستخدم في عهد الأسد. ومع ذلك، وإلى جانب التحديات، يلوح للبعض علامات تبعث على الأمل. فوفقاً لمن قابلناهم، يكمن التطور الإيجابي في المبادرات المدنية التي تهدف إلى خلق مساحات مشتركة تعبر فوق الانقسامات الاجتماعية والعرقية والمناطقية في سوريا – وهو إنجاز تنسبه إلى مرونة المجتمع السوري، وليس إلى حسن نية السلطات الجديدة.
ومن الأشكال الأخرى الواضحة لسيطرة الحكومة المؤقتة استمرار تسييس النقابات المهنية، حيث لا تزال هذه الهيئات بعيدة كل البعد عن الاستقلالية، كما لا تزال الحكومة هي التي تحدد تعيينات القياديات فيها بشكل مباشر.
كما كشفت عودة الجهات الفاعلة في المجتمع المدني إلى دمشق عن خريطة مدنية كانت مخفية في السابق. فخلال حكم الأسد، كان العديد من الناشطين يعملون في الخفاء. ومع انهيار النظام، شرعوا في العمل علناً وبالتعاون مع المجموعات العائدة. ومن أبرز هذه التحالفات تحالف ”مدنية“، الذي انطلق من الشتات في عام 2023 كمنظمة جامعة تمثل حوالي 180 مجموعة من مجموعات المجتمع المدني. تم تشكيل “مدنية” للدعوة إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 ( للعام 2015) ، والذي يعترف بالمجتمع المدني كطرف رئيسي في العملية السياسية في سوريا. وينشط الائتلاف الآن في دمشق.
من بين جميع القضايا التي تواجه المجتمع المدني السوري اليوم، تبقى العدالة الانتقالية هي الأكثر إلحاحاً وقد بدأت المنظمات بإجراء تدريبات لتعريف المجتمعات المحلية بمفهوم وممارسات العدالة الانتقالية.
ومع ذلك، ووفقاً لأحد الناشطين المحليين الذين قابلناهم، لا تزال هذه الجهود مقيَّدة بسبب عدم وضوح النهج الرسمي للحكومة: ما هو النموذج الذي ستتبناه السلطات الانتقالية؟ هل ستكون هناك محاكمات للمتورطين في فظائع الماضي؟ هل سيكون هناك عفو شامل؟ هذه الأسئلة باتت ملحة بشكل خاص في أعقاب مذابح الساحل في مارس الماضي، فيما لا تزال إجاباتها بعيدة المنال.
كما أعرب الناشط نفسه عن قلقه من أن قضية المعتقلين والمختفين قسرياً قد تكون عرضة لخطر التهميش. وعلى الرغم من لقاء الرئيس أحمد الشرع بعائلات المفقودين وإعلانه عن تشكيل هيئة حكومية لمعالجة هذه القضية، إلا أن الفاعلين المدنيين يخشون من احتكار الملف في يد الجهات الرسمية والحكومية الحالية، مما يترك مجالاً ضئيلاً للمنظمات المستقلة للمساهمة في العملية أو مراقبتها.
وبينما يستعيد المجتمع المدني نشاطه داخل سوريا، فإنه يتكيف أيضاً مع الواقع السياسي والجغرافي الجديد. فالمنظمات التي كانت تركز في السابق على توثيق الانتهاكات في عهد الأسد تتحول الآن نحو دعم الناجين من خلال المساعدات المالية أو تقديم الدعم النفسي. وفي المدن التي تأثرت بمجازر المنطقة الساحلية، أعادت العديد من المبادرات توجيه جهودها نحو عمليات الإغاثة والإنقاذ الطارئة للضحايا والناجين.
مشاركة الشتات في المرحلة الانتقالية في سوريا
تنعكس التحولات التي تحدث داخل المشهد المدني الداخلي في سوريا على تحولات موازية في أوساط الناشطين السوريين الذين اختاروا البقاء في الخارج. ومن بين أهم التغييرات في أولوياتهم التركيز المتزايد على الدعوة إلى العودة الآمنة والطوعية والمستدامة للاجئين والمنفيين، وفقاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان والهجرة. وقد أصبح هذا الأمر أكثر إلحاحاً مع بدء العديد من البلدان المضيفة – لا سيما في أوروبا – بالإشارة إلى نواياها بتعليق عمليات اللجوء للسوريين وحتى ترحيل بعض الأفراد، على الرغم من استمرار هشاشة الوضع في سوريا وغياب الضمانات الكافية لسلامتهم وإعادة إدماجهم.
شهدت الأسابيع الأولى التي أعقبت سقوط النظام عودة أعداد كبيرة من اللاجئين من البلدان المجاورة مثل لبنان وتركيا والأردن. ومع ذلك، فإن قرارات العودة لا تتأثر فقط بالظروف في البلد الأم، بل أيضاً بالضغوط السياسية والاقتصادية في البلدان المضيفة. وقد وضع هذا السياق المزدوج مسؤولية جديدة على عاتق المجتمع المدني السوري في الخارج: إطلاق حملات مناصرة منسقة تتناول طرفي معادلة العودة – الضغط على الدول المضيفة لدعم حماية اللاجئين، وفي الوقت نفسه الضغط من أجل إجراء إصلاحات مجدية داخل سوريا تسمح للعائدين بإعادة الاندماج بأمان وكرامة.
هذه المناصرة مزدوجة المستوى أمر معقد للغاية. فمن ناحية، يجب أن تكفل الضمانات الأمنية والحماية القانونية لأولئك الذين يختارون العودة؛ ومن ناحية أخرى، يجب أن تدعو إلى إعادة بناء بيئة محلية مواتية لإعادة التوطين المستدام. وتكشف شهادات العائدين عن واقع قاتم: فالعديد من المناطق لا تزال متضررة بشدة، والبنية التحتية الأساسية غير متوفرة، وعدد لا يحصى من الناس ليس لديهم منازل يعودون إليها. كما أن العبء المالي لإعادة البناء أو شراء الممتلكات لا يمكن التغلب عليه بالنسبة للكثيرين، خاصة في ظل عدم الاستقرار الاقتصادي المستمر وغياب الدعم المؤسسي.
في الأشهر الأولى من عمر الحكومة الانتقالية، التقى الرئيس “أحمد الشرع” مع عديد من الجاليات السورية بالخارج. وعبرت هذه الاجتماعات عن نية واضحة لتسهيل العودة من خلال تعزيز بيئة داعمة داخل سوريا. وينظر العديد من السوريين في المنفى إلى هذه الجهود بتفاؤل حذر، آملين أن يعملوا كوسطاء بين الحكومات الغربية والحكومة السورية المؤقتة. كما يدعو البعض إلى التخفيف التدريجي للعقوبات الاقتصادية التي فُرضت خلال حكم الأسد، بحجة أن الإغاثة المُستهدفة يمكن أن تعجل إطلاق عملية إعادة الإعمار وتحسين الظروف المعيشية للعائدين.
ومع ذلك، بدأت التوترات تظهر داخل منظومة المجتمع المدني الأوسع. فالعديد من الناشطين على الأرض، وبعض العائدين، يزعمون أن أولئك الموجودين فعلياً في سوريا اليوم هم وحدهم من يملكون الشرعية لصياغة القرارات السياسية والاجتماعية. ويهدد هذا التصور بتهميش نشطاء المنفى، وخاصة أولئك الذين لا يستطيعون العودة بسبب المخاطر القانونية أو الأمنية في البلدان المضيفة. وبالنسبة إلى الشتات برزت جبهة جديدة من النضال: الدفاع عن حقهم في المشاركة السياسية في مستقبل سورية، ودعوة الحكومات المضيفة إلى السماح بعودة مؤقتة من دون تعريض الوضع القانوني للاجئين منهم للخطر.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك ألمانيا، حيث أفادت تقارير بأن السلطات الألمانية هددت بإلغاء تصاريح الإقامة لأكثر من 2000 سوري عادوا لبلادهم مؤخراً. هذه الإجراءات، خاصة إذا توسع نطاقها لتشمل بلداناً أخرى، قد تشكل سابقة خطيرة، لأنها ستكون بمثابة عقاب فعلي للأفراد على إعادة التواصل مع وطنهم خلال مرحلة انتقالية. يأمل الناشطون السوريون أن تتم مراجعة هذه السياسات من خلال المشاركة الدبلوماسية والضغط من المجتمع المدني، لضمان عدم إجبار أي لاجئ على الاختيار بين المشاركة السياسية في سوريا والحماية القانونية في الخارج.
مستقبل المجتمع المدني في سوريا: الأمل والتحديات ونضالات ومعارك لم تحسم بعد
على الرغم من الزخم الذي أحدثه سقوط نظام الأسد وعودة المجتمع المدني في سوريا إلى الظهور، إلا أن التحديات الهيكلية عميقة الجذور لا تزال قائمة، لا سيما بالنسبة للمجتمعات المهمشة. فلا تزال النساء والأقليات الدينية والطائفية والمعارضون الأيديولوجيون وأفراد مجتمع الميم يواجهون الإقصاء والتمييز وحتى تهديدات لمشاركتهم في الحياة المدنية. على سبيل المثال، غالبًا ما تتعرض النساء اللواتي يشاركن في الاحتجاجات أو المناقشات العامة لحملات تشهير، وتظل مواضيع مثل النسوية أو المشاركة السياسية للمرأة حساسة للغاية ويصعب تناولها علنًا. ويعكس ضعف تمثيل المرأة في الحكومة الانتقالية استمرارية مخيب للآمال لميراث الأنظمة السابقة، على الرغم من التطلعات إلى تغيير حقيقي بعد الثورة.
وغالبًا ما تُقابل أصوات الأقليات، لا سيما تلك التي تنتمي إلى مجموعات طائفية مستهدفة تاريخيًا، بالريبة أو تُتهم بالولاء للنظام السابق إذا ما عبرت عن آراء معارضة. أما بالنسبة لمجتمع الميم-عين، فلا يزال نضالهم مسكوتاً عنه بشكل شبه كامل، ولا مؤشرات في الأفق على استعداد السلطات الانتقالية للتعامل مع حقوقهم أو حمايتها.
تبرز هذه القضايا هشاشة الفضاء المدني الناشئ في سوريا وضرورة الدفاع عن شرعية واستقلالية المجتمع المدني الآن، قبل أن تعيد الأنماط الماضي القهرية فرض نفسها بأشكال جديدة. فالاستقلال الحقيقي لا يعني فقط البقاء جنا إلى جنب مع الحكومة، بل يعني أيضاً مساءلتها.
وقد أثارت تطورات أخيرة منها مشاركة وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في مؤتمر تأسس في الأصل خلال فترة ”ربيع دمشق“ القصيرة، مخاوف بشأن استمالة الحكومة للمنابر المدنية. وفي حين أن مثل هذه المظاهر قد تشير إلى الانفتاح، إلا أنها قد تشير أيضًا إلى تجدد المراقبة والسيطرة.
وأخيراً، لا يزال هناك اختلال جغرافي بيّن. ففي حين أعادت كثير من المنظمات تأسيس نفسها في دمشق، لا تزال أجزاء كبيرة من البلاد غير مستفيدة ومستبعدة من هذا الانتعاش المدني. وإذا ما أراد المجتمع المدني السوري أن يلعب دوراً حقيقياً في تشكيل مستقبل أكثر عدلاً وشمولاً للجميع، فعليه أن يعالج هذه التفاوتات ويضمن أن يمتد حضوره وتأثيره إلى خارج العاصمة.
إن الطريق أمامنا يلفه الغموض، ولكنه مفعم بالإمكانيات. وستكون مسألة ما إذا كان بإمكان المجتمع المدني أن يصبح حقاً قوة موازية لسلطة الحكومة، بدلاً من أن يكون أداة لها، أحد الأسئلة الحاسمة في المرحلة الانتقالية في سوريا.