المقدمة
عرفت تونس منذ ثورتها المندلعة سنة 2011 من سيدي بوزيد والتي جابت شوارع الحبيب بورقيبة في العاصمة زخاءً من حيث الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات التي كانت محاكم باب بنات في تونس العاصمة شاهدة عليها لتندد مئات الاصوات من مختلف الاجيال اما برحيل الطبقة السياسية الحاكمة او بالتكريس الفعلي للحقوق والحريات.
بالرغم من تعدد الوقفات الاحتجاجية وتنظيمها المحكم اما من قبل منظمات او احزاب او مجموعة من الشباب، والتنصيص عليها دستوريا كحق كوني لا يجب المساس فيه، لا يمكن لمن عاين المشهد السياسي التونسي ان ينكر الايقافات، العنف البوليسي والملاحقات القضائية للعديد من الناشطين في المجتمع المدني، خاصة إذا كانت الوقفة الاحتجاجية ذات صبغة حقوقية.
على ضوء اصدار المحكمة الابتدائية ببن عروس الحكم القاضي بالسجن في حق مواطنين لمدة سنتين وفقا لأحكام الفصل 230 مرفقا بطلب النيابة العمومية للعرض على الفحص الشرجي، نظمت جمعية دمج وشركائها وقفة احتجاجية من المحكمة الابتدائية بتونس باب بنات إلى بطحاء السجن المدني 9 افريل سابقا الى المحكمة الاستئنافية بتونس بال 26 من يونيو تنديدا بالوقف الفوري للفحوصات الشرجية وتذكيرا برمزية ال 26 من يونيو الموافق لليوم العالمي لمناهضة التعذيب.
لطالما مثلت بعض المسائل الحقوقية عند طرحها، في المخيلة الجماعية، تابو يحبذ عدم الحديث فيه، خاصة وانه يفرض على الفرد التجرد من الاحكام المسبقة التي تلقاها طوال تكوينه دون تساؤلات. مثل موقف تبنته مؤسسات الدولة المفترض حيادها وعملها وفق مبدأ عدم المساواة والتمييز لتصبح نابذة لكل اشكال الاختلاف تلاحقه اينما كان، وهو ما يجعل الاحتجاجات السلمية المتمحورة حول المسائل الحقوقية محط نبذ الجميع.
لم تطرأ على السياسة الجزائية التونسية منذ إصدار المجلة الجزائية المؤرخة بأمر9 جويلية 1913 أي تغييرات يمكن اعتبارها ثورية على كل من المعنى القانوني والاجتماعي، فمنذ حوالي أكثر من قرن لم تتجه إرادة المشرع نحو تنقيح الفلسفة التي تقوم عليها المجلة التي باتت بدورها مخالفة للدستور التونسي و متعارضة مع ترسانة المعاهدات الدولية المصادق عليها.
لم تتخلف المجلة الجزائية عن مواكبة تطور علوم الإجرام فقط، بل عن تطور ديناميكية الأنظمة القانونية المقارنة، إضافة إلى عرقلة تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية التي لم تر النور بعد. وهو ما يطرح ضرورة فتح أبواب الحوار لنقد وتحليل وضعية المنظومة الجزائية في تونس سعيا لتغيير ما يتعارض منها مع حقوق الإنسان الكونية.
يحاول البعض جاهدا التغاضي عن مسألة الفحوص الشرجية القسرية خاصة لارتباطها الوثيق بموضوع المثلية الجنسية المشحون بالأحكام المجتمعية المسبقة سواء كانت مرتبطة بالمؤسسة الأخلاقية او الدينية، بيد أن طرحها اليوم ذو أهمية كبيرة فهو إفساح المجال لإعادة التفكير في المنظومة الحقوقية في ظل الواقع الراهن والخروقات الجلية لحقوق الإنسان.
بين المأمول والموجود: الهوة بين النصوص القانونية والواقع المعيش
لطالما وقع التغني بالدستور التونسي والتشدق بالمنظومة القانونية التونسية وتقديمها على أساس النموذج العربي الحداثي الوحيد الناجح في المنطقة مما خلق نوعا من التحريم حول الحديث على ضرورة تعديل وإصلاح هذه المنظومة الجزائية.
يعتبر الدستور حجر أساس الدولة والضامن الاساسي والفعلي للحقوق والحريات فهو اعلى وثيقة في المنظومة القانونية و المكرس للحقوق الكونية و منها مبدأ عدم التمييز و حرمة الجسد. تندرج الفحوص الشرجية القسرية في خانة الممارسات الغير دستورية بما فيها من تعد فاضح على كرامة المواطن و جسده و اذلال للذات البشرية.
لا تتماشى الفحوصات الشرجية والمسار الذي انتهجته تونس خاصة بعد ثورة 2011 فقد جاءت توطئة كل من الدستور التونسي المؤرخ في 27 جانفي 2014 والدستور التونسي المؤرخ في 25 جويلية 2022 محملة بالقيم الكونية التي تؤكد التزام الدولة بضرورة تكريسها في سياستها العامة عبر حمايتها والالتزام بها كبوصلة تحدد الطريق الواجب المضي فيه. ولكن شتان بين الممارسات الحاصلة على أرض الواقع وبين ما ينص عليه الدستور. فإذا كان الدستور نظريا وثيقة يجب على الدولة احترامها والعمل على خطى مبادئها فالواقع يتعارض كليا معها فالانتهاكات الطارئة على منظومة حقوق الإنسان منذ عقود لا تساهم إلا في ملأ قعر السجون بمتهمين ذنبهم اختلافهم.
ناهيك عن انتهاك الخصوصية التي تنجر عن عملية جمع الادلة فيقع تفتيش الحواسيب والهواتف وخاصة خرق سرية المراسلات و هو ما يتعارض مع الحق في الخصوصية فيسمح القاضي لنفسه بالاطلاع على الحياة الشخصية والحميمية للأفراد و التي يحميها الفصل 30 من الدستور التونسي.
تغيب الحماية القانونية للأقليات في الدستور باستثناء حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وهو ما يجعلهم عرضة الى العنف المجتمعي والعنف البوليسي، فالسياسة الاقصائية للدولة ساهمت في تفاقم كل من الوصم الاجتماعي والعزل عن الفضاء العام.
وبالرغم من ترسانة الاتفاقيات التي تؤكد على ضرورة احترام حقوق انسان لا يزال اعتماد الفحوص الشرجية كدليل ادانة قائما.
صادقت تونس على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة سنة 1988 وقامت بإحداث هيئة الوقاية من التعذيب في إطار تجسيد البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة الذي صادقت عليه في 2011 كذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان في 1983والميثاق العربي لحقوق الإنسان سنة 2004.
علاوة على ذلك فقد دعت لجنة مناهضة التعذيب الدولة التونسية في سنة 2016 في ظل تقييمها التزام الدول بـاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة الى حظر الفحوص الشرجية بيد ان اعتماده كدليل ادانة لا يزال قائما الى يومنا هذا.
بالإضافة الى مختلف التوصيات التي قدمتها دول اعضاء الامم المتحدة خلال الاستعراض الدوري الشامل لسنة 2017 و المتعلقة بحظر الفحوص الشرجية و بالرغم من قبول التوصية و التي تقر بضرورة القطع مع الفحوصات الشرجية، الا انه لم تتخذ اي خطوة فعلية نحو الغاء العمل بها كدليل ادانة.
ان المصادقة طوعيا على المعاهدات والاتفاقيات الدولية يجعل من الدولة مسؤولة عند رسمها لسياساتها العامة في الاخذ بعين الاعتبار ضرورة احترام محتوى المعاهدات وهو ما يفضي الى احترامها لقواعد القانون الدولي.
لا يوجد اي سند تشريعي للفحوص الشرجية كدليل ادانة عند الحديث عن الفصل 230، ولا يمكن الاقرار الا بصبغتها العرفية، اي انها وعلى حسب تعبير علم الاجتماع ” الهابيتوس ” عند القضاة، حلقة مفرغة لم يجرؤ القاضي التونسي على الخروج منها.
من المتعارف عليه في الاوساط القضائية ان الفحوصات الشرجية اختيارية بيد ان الواقع يبرز عكس ذلك فرفض الخضوع عليه يعد دليلا بحد ذاته، بحيث يمكن إعمال القياس ليصبح الرفض في حد ذاته تهربا من الجريمة المرتكبة.
لا تستند الإيقافات عشوائية على أية دليل ملموس وهو ما يشرع في مرحلة البحث الأولي والإيقاف والاحتفاظ الى انتهاك حياة المشتبه به الشخصية من سرية المراسلات وحرمة السكن بالرغم من تنصيص الأمر عدد 240 لسنة 2023 مؤرخ في 16 مارس 2023 يتعلق بالمصادقة على مدونة سلوك قوات الأمن الداخلي التابعة لوزارة الداخلية في الفصل 26 على ” لا يجري الأمنيون عمليات التفتيش في غير حالات التلبس إلا بمقتضى أذون قضائية صريحة في الغرض ووفق الإجراءات المنصوص عليها بالقانون والتراتيب النافذة. وعلى الأمنيين أثناء قيامهم بعمليات التفتيش حفظ حرمة وكرامة الذات البشرية وحرمة المسكن والممتلكات الخاصة.”
من المهم فهم مدى عشوائية الايقافات واستنادها غالبا على احكام مسبقة ككل من المظهر الخارجي (الشكل) او طريقة المشي (الصوت.. التحدث مع الرجال…) وقد يكون الايقاف مستندا على تدوينات ونشاط مع جمعيات تدافع عن حقوق مجتمع الميم و هو ما يمثل مس لحقوق كونية كفلها كل من الدستور والمعاهدات الدولية على غرار حرية التعبير و الانضمام الى الجمعيات.
ويمكن للاتهامات ان تتخذ منحا اعتباطيا فقد سبق لقوات الأمن إيقاف أحد الضحايا بعد ما اتصلت لتبلغ عن تعرضها للاغتصاب لتصبح متهمة وفق احكام الفصل 230.
عن الشعور بالعار والتروما التي يحملها الضحايا:
قد سبق وصرح عديد من الضحايا في مختلف الاعمال الصحفية عن الصدمة النفسية التي لم تفارقهم منذ اخضاعهم قسرا للفحوصات الشرجية من اكتئاب حاد الى رهاب التجمعات فالبعض قد اقر ان تجربة الفحص الشرجي كانت مرفقة باعتداءات اخرى
كالصفع، الضرب المبرح والشتائم في حالة الإيقاف التحفظي وهو ما يتعارض كليا مع الفصل 28 من الدستور التونسي والفصل 13 مكرر من المجلة الجزائية.
من اجل تاثيث هذا المقال، كان من المهم محاورة علي بوسالم المدير التنفيذي لمنظمة موجودين الذي يتعامل يوميا مع ضحايا الفحوصات الشرجية وعبر عن الشعور المشترك الذي يخالج الضحايا من الاهانة الى احساس دفين من الخزي و العار “بإمكان القارئ أن يتصور أمر الضحية بتعرية نفسها امام انظار فريق طبي بأكمله إضافة الى التعرض للعنف المعنوي و الجسدي في حالة الإيقاف… هي صدمة تحملها الضحية مدى الحياة خاصة و ان لم تتسن لها فرصة التواصل مع جمعيات و منظمات لمشاركة التروما وطلب الحماية اللازمة.”
تحدث علي بوسالم عن تأثير هذه الاعتداءات على حياة الضحايا و امكانية التعرض للطرد من العمل او المنزل و صعوبة مواصلة الحياة اليومية اذا لم تتوفر للضحية الحماية و التأطير اللازم.
أكد علي على ضرورة كسر بوتقة التابو والتحرر من المسلمات وفتح باب حوار مجتمعي يقوم على التبسيط عوض القبوع في البرج العاجي بخطاب نخبوي.
في اروقة المحاكم: تكوين منحصر في بوتقة التشريع
ان السلطة القضائية تلعب دور حامي الحقوق والحريات فهي الضامن الفعلي للعدل وحسب الفصل 102 من الدستور التونسي ” القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور، وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات.”
و هو ما يحتم على القضاء اليوم أن يعي قيمته في تكريس الحقوق و الحريات والقطع مع الممارسات التي تتعارض مع الدستور.
غياب المحكمة الدستورية يفضي الى عدم امكانية اللجوء إلى الدفع بعدم دستورية الفحص الشرجي في إطار نزاع معين أمام القاضي العادي، ولكن بإمكان القاضي في قرار يخرج به عن التمشي المألوف لفقه القضاء أن ينفتح على كل من الدستور و المعاهدات الدولية و القانون المقارن ليخط طريقا لم يقع السير فيها من قبل و هو ما وقع الحديث فيه مع فدوى براهم المحامية المهتمة بالشأن الحقوقي. على حسب تصريحاتها، فإن القضاء في تونس لم ييقن دوره بعد لعدة اسباب لعل اهمها التكوين الذي يتلقاه القاضي والذي يتسم حسب رأيها بالرجعية وبمحدودية امكانية خلق مساحة لاستنباط فقه قضاء جريء.
بين الرفض خوفا من ردة الناخب والاهمال: كيف تعاملت السياسة مع المسالة؟
من الجلي التساؤل عن نوعية الحلول التي يجب اتخاذها عند التعرض للمسائل الحقوقية، هل هي قانونية ام سياسية لتعتبره المحامية فدوى سياسي بامتياز فالفاعل السياسي هو من يملك إمكانية تغيير الموازين بموجب شرعيته الانتخابية.
سبق للرئيس الراحل الباجي القائد السبسي تعيين “لجنة الحريات الفردية والمساواة” سنة 2018 والتي اقترحت إنهاء اعتماد الفحوص الشرجية في التحقيقات الجنائية كدليل ادانة وقدّم 13 نائباً في البرلمان التونسي مشروع قانون خاصّ بالحريات الفردية ضمّ مقترحات عديدة، من بينها إلغاء الفصل 230 في أكتوبر من العام نفسه. وقد وعد رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد بإلغاء الفحوص الشرجية.
بيد انه شتان بين الوعود والواقع لتبرز مليا غياب الارادة السياسية الحقيقية والتي أعاقت فعلا مسار إلغاء الفحوص الشرجية والقضاء على كل أشكال التمييز عبر إخراج كل القوانين المخالفة لمنظومة حقوق الإنسان من دائرة الشرعية.
وهو ما وقع التحدث فيه في المرحلة البحثية للمقال مع خولة بن عائشة سياسية وعضوة سابقة في البرلمان “في السنوات الأخيرة صار الحديث على الفصل 230 أكثر من اي وقت قد مضى، بين رافض و مرحب، بين النظرة المتقوقعة على ذاتها و النظرة المنفتحة على القيم الكونية” عبرت خولة عن مدى عسر الحديث عن مسالة الفحوص الشرجية اعلاميا و ابرزت كذلك ملامح الصعوبات التي تعرضت لها لجنة الحريات و الحقوق الفردية.
عملت خولة مع زميلها النائب ياسين العياري حول الفحوص الشرجية حيث توجها للسيد بشير المنوبي رئيس لجنة إعادة صياغة مجلة الإجراء ات الجزائية و طرحا مسألة ضرورة إلغاء الفحوص الشرجية عند التعديل بالإضافة الى عقد مجتمعات مع الوزير السابق لحقوق الإنسان العميد فاضل محفوظ ولكن انتهت مهامهما البرلمانية و لا يزال التعديل معلقا.
تعرضت خولة للمضايقات الفايسبوكية، التشهير والضغط وفسرت خوف النواب من طرح مثل مسائل حساسة مجتمعاتيا فقد يتهم بعضهم بالزندقة و الهتك بالنواة الاسرية و قد ينقلب الرأي العام ضدهم لتستشعر قاعدتهم الانتخابية الخذلان.
الخاتمة
تدعو المنظومة القانونية التونسية للتساؤل عن قيمتها الاساسية ( Valeur Cardinale) و التفكير في ان ما كانت ترتكز بالأساس على العقاب لغاية العقاب او ضمان منظومة حقوق الإنسان.
ففلسفة المنظومة القانونية هي التي تحدد إذا كانت الحقوق الكونية في جوهر السياسات العامة للدولة، وإذا ما ستلتزم في احترامها حتى اذا اقتضت الضرورة تحديدها، ولعل التجمع السلمي ابرز مثال على اهمية تأطير السلطات لها قانونيا دون المساس من جوهرها او جعلها فرصة للفتك من الناشطين و الناشطات في المجتمع المدني.