Search
Close this search box.

من الخيال إلى المخيال.. كيف تعيد الفنون بناء الحيّز العام؟

انبثقت فكرة هذا المقال من تجربة حية قمت بتيسيرها مباشرة بعد سقوط نظام الأسد، عبر مبادرة تحت اسم “الصالون”. كانت المبادرة دعوة مفتوحة للمهتمين بتقاطعات الفنون والثقافة والحيّز العام، محاولة متواضعة لاستكشاف ما يمكن أن يكون عليه دور الفاعلين الثقافيين والفنانين في هذه اللحظة التاريخية الحرجة.

في لقاءات الصالون، اجتمع فنانون وناشطون وفاعلون ثقافيون من خلفيات وتجارب متنوعة، حركهم جميعًا قلقٌ حقيقي: كيف نعيد تموضعنا كفاعلين داخل واقع جديد بدأت تتسع فيه دائرة الممكن، وتتحرر فيه، ولو جزئيًا، طاقة الخيال التي ظلت مكبوتة طويلاً تحت قبضة السلطة؟ كيف يمكن للفنون والثقافة أن تلعب دورًا في مرحلة العدالة الانتقالية، في حماية حقوق الإنسان، وفي جبر الضرر؟ وهل يمتلك الحقل الثقافي، بمستوييه العام والخاص، القدرة على المساهمة في هذه المهام الثقيلة؟

بدأ التفكير بشكل جماعي، لا بهدف إنتاج أجوبة جاهزة، بل لفتح مساحة حرة للأسئلة:

ماذا يعني العمل الثقافي في واقع مابعد السقوط؟ كيف نحمي حيوية الثقافة من الوقوع في مصيدة الشرعية الجديدة أو التواطؤ مع السلطة القادمة؟ كيف نعيد بناء العلاقة مع المجتمع بعد سنوات من العزلة القسرية أو المنفى الداخلي والخارجي؟ كيف نؤسس لاشتباك متجدد بين الفنون والفضاء العام؟  كيف يمكن أن يصبح الحقل الثقافي جزءًا عضويًا من السياسات العامة، لا حقلًا منفصلًا أو مخصصًا للزينة الرمزية؟

لم يكن الطريق سهلاً. ورغم الحماسة التي رافقت انطلاقة الصالون، إلا أن التجربة كشفت بوضوح حدود الوصول: المبادرة، التي قُدمت بشكل فردي لا مؤسساتي، لم تلقَ تجاوباً واسعاً من جانب من يمتلكون رؤوس الأموال الرمزية والثقافية الكبيرة داخل الحقل. وكأن الحقل، حتى وهو يتنفس هواءً جديداً، ظل محكوماً بشبكة المصالح القديمة التي تعيد توزيع الرمزية والاعتراف بناءً على معايير الانتماء والقوة الناعمة.

رغم ذلك، كان هناك أصدقاء وزملاء ومؤسسات قاعدية شاركوا ودفعوا بالحوار إلى آفاق أوسع. لم يكن الهدف من الصالون بناء مؤسسة أو حركة، بل ببساطة  فتح فضاء للأسئلة، للتخيل الحر، للتشويش الواعي على الحدود المصطنعة بين الثقافي والسياسي، ومحاولة كسر قوالب التفكير التقليدي حول الممكن والمستحيل.

من هذه التجربة الأولية، ومن هذه الحاجة الملحة لاستعادة الخيال والنقد معًا، انبثقت الفكرة التي سأناقشها في هذا المقال:
كيف يمكن للفنون والثقافة أن تتجاوز أدوارها التقليدية وتتحول إلى أدوات فاعلة في بناء فضاء عام جديد، أكثر عدالة وانفتاحًا، بعد سقوط الاستبداد في سوريا؟
كيف نعيد ترتيب الحقل الثقافي بحيث لا يكون مجرد ظل لسياسات الهوية أو السلطة الرمزية، بل يصبح مختبرًا مفتوحًا لتجريب مسارات الحرية والمواطنة ؟

بهذه الروح نفتح النص، وفي هذا القلق نبحث عن أفق جديد.

 

الفنون والثقافة في سوريا بعد السقوط: بين الفرصة والتفريغ

في اللحظة الدقيقة التي تمر بها سوريا بعد سقوط النظام، يصبح سؤال جدوى الفنون والثقافة وحدودهما أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى:
هل يمكن للثقافة أن تواصل إنتاج المعنى، أن تشارك في إعادة بناء المجتمع، أن تطرح الأسئلة الصعبة حول الذاكرة والعدالة والانتماء، من دون أن تشتبك مع القضايا السياسية والاجتماعية الكبرى؟ أم أن دفعها نحو “الحياد” و”النقاء الفني” ليس سوى محاولة لإعادة تدجينها وتجريدها من مبرر وجودها الأساسي؟

ما شهدناه خلال عقود القمع، وما بدأ يتجلى بوضوح اليوم، أن كل محاولة لفصل الفعل الثقافي عن السياسة ليست بريئة، بل عملية موجهة بوعي أو بغير وعي لخنق طاقة الثقافة في تغيير العالم.
في سوريا كما يؤكد ياسين الحاج صالح في الثورة المستحيلة(2017)، لم تكن الثورة السورية مجرد حركة احتجاج سياسي، بل كانت أيضًا مواجهة كبرى مع إرث ثقافي طويل من الاستبداد وإقصاء الفضاء العام.كما في تجارب أخرى في منطقة شرق المتوسط، تعرضت الفنون المرتبطة بالدفاع عن حقوق الإنسان إلى شيطنة ممنهجة : كان يُنظر إلى كل إشارة سياسية باعتبارها تهديدًا يجب تحييده، وكل فعل ثقافي ناقد باعتباره “تحريضًا” لا فنًا.

اليوم، ومع اتساع فضاء الممكن بعد انهيار النظام، تعود هذه المعضلة بقوة مضاعفة، ولكن بثوب جديد:
باتت الفنون والثقافة تلعب لعبة حرية التعبير عن طريق نقد النظام المنهار، عبر استحضار خطاب الشتيمة والمقاومة الرمزية له. لكن، ماذا عن المواجهة مع سلطات الأمر الواقع التي تشكّلت سريعًا في الداخل السوري؟
ماذا عن الجرأة في مساءلة التسلط الجديد، وتفكيك آليات الهيمنة الناعمة التي بدأت بالتشكل مجددًا؟

 

مداورة بين البديل وبديل البديل

يحلل بيير بورديو في Distinction (1984) كيف أن المنتجات الثقافية لا تعبر عن تفضيلات فردية بريئة، بل تُعيد إنتاج التراتب الاجتماعي عبر رأس المال الرمزي وتمييز النخب عن الفئات المهمشة. الحقيقة أن كِلتا الحالتين – الاكتفاء بالخطاب الرمزي حول النظام السابق، أو السقوط في فخ الحياد الفني المزعوم – تؤثران سلبًا على إمكانيات استعادة الدور الحقيقي للفنون والثقافة.
فمن جهة، يتم تدوير خطاب المقاومة بطريقة تبقي الفعل الثقافي عالقًا في الماضي، غير قادر على الاشتباك مع تحديات الحاضر.
ومن جهة أخرى، يتم دفع الفنون نحو مساحة “آمنة”، حيث يُسمح لها بالاحتفال بسقوط الاستبداد، ولكن دون أن تلامس القضايا الملتهبة للسلطة الجديدة والانتهاكات المستمرة.

رغم ذلك، ثمة حقل متاح ومساحة مفتوحة اليوم لاستعادة الفضاء الثقافي وإعادة امتلاكه — حتى لو بدا شكليًا أن سقف الحريات قد ارتفع، فإنه ما يزال هامشيًا ومتأثرًا عميقًا ببنى السلطة الجديدة.

إن تموضعنا الجديد كفاعلين ثقافيين داخل هذا الفضاء يجعلنا حذرين مجددًا، خاضعين لقيود غير معلنة:
هناك خوف من خسارة المكانة المكتسبة حديثًا بعد السقوط، خوف يدفع الكثيرين إلى تجنب الاصطدام مع سلطات الأمر الواقع، وبالتالي الاستمرار في اللعب على هامش الفضاء العام، بدل خوض معركة إعادة تعريفه.

هذا الحذر، وإن كان مفهومًا في سياق هشاشة التحول السياسي، إلا أنه يهدد بجعل العمل الثقافي مجددًا مجرد “زينة” رمزية، بدل أن يكون قوة دافعة للتغيير الاجتماعي والسياسي العميق.

إذا لم ننجح في توظيف أدواتنا وممارساتنا الفنية والثقافية لمساءلة القمع والانتهاكات الجديدة، فإننا، دون أن نشعر، نعيد إنتاج ديناميات الصمت والتواطؤ التي طالما اتهمنا بها النظام القديم.

 

آلة معاداة السياسة: كيف يتم تفريغ الفنون من مضمونها بعد السقوط

يحلل جيمس فيرغسون، في كتابه The Anti-Politics Machine (1994)،”الآلة المضادة للسياسة”، فهمًا عميقًا لكيفية تحوّل مشاريع التنمية إلى أدوات لإعادة تثبيت الهياكل السلطوية بدلًا من تفكيكها. يشرح كيف يتم تفكيك المشكلات الاجتماعية وتحويلها إلى قضايا تقنية ضيقة، مما يخدم في النهاية بقاء المصالح الهيمنية.

ينطبق هذا التحليل تمامًا على المشهد الثقافي السوري بعد سقوط النظام، فبدل أن تنفجر الفنون وتتحول إلى أدوات حيوية لإعادة مساءلة بنية السلطة والعنف، يتم التعامل معها بوصفها مجرد منتجات ترفيهية أو رموز زخرفية لهوية وطنية جديدة. يُفصل العمل الفني عن قدرته النقدية والمساءِلة، ويُدفع به ليخدم مشاريع إعادة ترتيب السلطة بدلًا من تفكيكها.

في هذا السياق، تتحقق معاداة السياسة بطريقتين متكاملتين:

من جهة، يتم تطبيع الفنون داخل فضاءات آمنة، حيث يمكن الاحتفال بحرية التعبير طالما أنها توجه نقدها نحو النظام القديم فقط، دون مساس بتشكيلات السلطة الراهنة.

ومن جهة أخرى، يتم إخضاع الفنون لمنطق السوق والسياسات الثقافية الشكلية: تُنتج أعمال سهلة الهضم، فاقدة للتماس مع القضايا الكبرى، تُسوّق بوصفها رموزًا للحداثة والانفتاح، بينما يتم تجنب توظيفها كأدوات نقد وتفكيك للسلطة الجديدة.

هذا التفريغ لا يطال المضامين فقط، بل ينعكس أيضًا على جماليات الإنتاج الفني ذاته:
تتحول الأعمال إلى صيغ مريحة، خالية من التوتر الداخلي، لا تزعج الجمهور ولا تصطدم بالمخيال الجماعي المهترئ.
يغيب الصراع، تغيب الأسئلة الحرجة، وتتحول الفنون إلى أدوات تخدير ناعم بدل أن تكون أدوات إثارة للقلق النقدي.

 

أزمة الجدل العام: ضرورة استعادة الفضاء لا مجرد احتلاله

إن تراجع الأدوار الاجتماعية للفنون والثقافة لا يُختصر فقط في هشاشة المؤسسات الثقافية أو شح التمويل. بل هو نتيجة مباشرة لغياب منظومة ثقافية متماسكة تربط بين الإبداع الفني والتعليم، بالبحث النقدي، بالتنشيط الاجتماعي، وبناء الجمهور الفاعل.

اليوم، بعد سقوط النظام، تتاح أمامنا فرصة تاريخية لإعادة امتلاك الفضاء الثقافي، لا مجرد التحرك على هوامشه.
لكنه امتلاك مشروط: لا يمكن أن يحدث بدون إعادة ربط الفعل الفني بالتجربة المجتمعية، وإحياء الجدل الحقيقي في المجال العام، حيث تصبح الثقافة جزءًا من نسيج الحياة السياسية والاجتماعية، لا مجرد معلق خارجي.

المعركة اليوم تُخاض على جبهتين متوازيتين:

مواجهة الاستحقاقات الآنية: عبر تفعيل الفنون كوسائل دفاع عن حقوق الإنسان، والعدالة الانتقالية، وكسر سرديات الهيمنة الجديدة.

العمل الاستراتيجي على رسم سياسات ثقافية تضمن حرية التعبير، وتفكك التمركز الرمزي حول السلطة، وتحمي التنوع الإبداعي من المصادرة باسم الوطنية أو الهوية الجامعة.

 

الاحتجاجات كإرهاص عالمي: الدروس المستفادة لسوريا

يشير سلافوي جيجيك في مقاله “Trouble in Paradise” (2013) إلى أن النضالات الاجتماعية، مهما كانت محلية، تتكثف فيها أزمة عالمية أعمق: أزمة الرأسمالية النيوليبرالية وتفريغ الديمقراطية من مضامينها الحقيقية.

بالمثل، معركتنا في سوريا للدفاع عن اشتباك الفنون مع السياسة وحقوق الإنسان ليست معركة محلية فقط.
بل هي جزء من مقاومة عالمية ضد تفريغ الفضاء العام من معناه، وضد تحويل الثقافة إلى واجهة دعائية لأنظمة سياسية جديدة قد تكرر أنماط الهيمنة بشكل مموه.

إذا لم ننتبه إلى هذا البعد، فإننا سنجد أنفسنا نعيد، دون وعي، إنتاج استبداد محسّن، تحت لافتات جديدة، مؤسسات جديدة، وجماليات معقمة.

لهذا فإن الدفاع عن تسييس الفنون، وعن اندماجها العضوي في معارك الحرية والعدالة والكرامة، ليس ترفًا نخبويًا ولا شغفًا نظريًا، بل هو الشرط الأول لنجاة الفعل الثقافي نفسه من التبديد، ولكي تبقى الثقافة قوة حية في معركة إعادة بناء المجتمع السوري على أسس جديدة.

 

الخيال كضرورة: نحو إعادة تعريف المؤسسة وترتيب الحقل في اللحظات الفاصلة

في اللحظات التي تتكسر فيها البنى التقليدية ويفتح المجال أمام احتمالات غير مكتوبة بعد — كما هو حال سوريا اليوم بعد سقوط النظام  لا يكون الخيال ترفًا أو رفاهية فكرية، بل يصبح ضرورة قصوى للبقاء والتجدد. حين تتعرض المؤسسات الثقافية والاجتماعية لاهتزازات عميقة، ويُعاد خلط الأوراق حول أدوارها ومعانيها، يظهر الخيال بوصفه الأداة الأهم لإعادة التموضع، ولمساءلة المفاهيم والتصورات التي طالما بدت طبيعية أو أبدية، لكنها كانت في العمق مشروطة بالسياقات السياسية والاجتماعية السائدة.

المؤسسات الثقافية ليست كيانات مكتفية بذاتها ولا معاقل لهوية ثابتة، بل هياكل حية تتشكل وتتفكك بحسب الحاجة والتوازنات الاجتماعية المتغيرة. في هذه اللحظة السورية الحرجة، يصبح تفعيل الخيال مهمة استراتيجية تتجاوز فكرة تجميل الأزمات إلى تفكيك التصورات الجامدة حول معنى العمل الثقافي وأدوار المؤسسات، والجرأة على إعادة التفكير فيها انطلاقًا من هشاشة الحاضر وانفتاحه.

ومع أن الخيال ضروري، إلا أن التعويل عليه وحده يبقى قاصرًا ما لم يُقترن ببحث نقدي دؤوب عن القاعدية الفعلية للفعل الثقافي. لا يكفي أن نؤسس منصات جديدة بأسماء محدثة، ولا أن نغيّر الشعارات دون أن نعيد بناء علاقة حقيقية مع المجتمع بوصفه الحاضنة الطبيعية للعمل الثقافي، مصدر شرعيته وطاقته الحيوية. يجب أن ننتقل من ثقافة التعالي أو الرعاية إلى ثقافة الاشتباك الحي مع التناقضات الاجتماعية، والاعتراف بأن الثقافة لا تصنع في المختبرات المعقمة بل في عمق الحركات الاجتماعية وفي تفاعلات الحياة اليومية.

 

التفكيك المتواصل، وتحديد مواضع الاختراق

هنا تبرز المهمة الموازية الأخرى: تفكيك رؤوس الأموال الرمزية التي تراكمت داخل الحقل الثقافي، فتحولت إلى أدوات خفية لإعادة إنتاج الامتياز والإقصاء تحت شعارات الجودة أو الحداثة أو الأصالة. كما أن رأس المال الاقتصادي ينتج طبقات اجتماعية، كذلك تصنع الرمزية الثقافية هرمية مغلقة تُقصي الأصوات الجديدة والمهمشة. المطلوب ليس تدمير المعايير، بل تحريرها من قوالبها، وإعادة وصل الإبداع بتجارب الحياة، لا بخطابات النخبة المنفصلة عن المجتمع.

غير أن هذه المهام لا يمكن أن تقع على عاتق المؤسسات وحدها، خصوصًا في سياق هش كمشهد ما بعد السقوط في سوريا. إن المسؤولية اليوم تقع على عاتق الأفراد أولًا: على الفنانين، والمثقفين، والناشطين، والفاعلين الاجتماعيين، الذين يمتلكون حساسية حقيقية تجاه هذا الحقل. هؤلاء مدعوون إلى التجمع، والتنظيم، وإعادة تعريف أولويات الفعل الثقافي، واستعادة ملكية الفضاء الثقافي والاجتماعي الذي جرى مصادرته لعقود.

لم يعد مقبولًا الانتظار حتى تنشأ مبادرات مؤسساتية كبرى؛ المطلوب أن نخلق من داخل الهشاشة شبكات صغيرة وحيوية، قادرة على إنتاج المعنى، وعلى مقاومة إعادة إنتاج السلطة الجديدة بأدوات قديمة. هذا السعي لاستعادة الفضاء لا يمكن أن يكون فرديًا أو نخبويًا، بل يجب أن يُبنى على تحالفات واسعة، مفتوحة، مرنة، قادرة على احتضان التعدد والخلاف كشرط أصيل لأي بناء ثقافي حي.

هكذا تصبح إعادة ترتيب الحقل الثقافي اليوم فعلًا تخييليًا وواقعيًا في آن: تخيّل إمكانيات جديدة للوجود المشترك، وعمل دؤوب على تنظيم الذات خارج دوائر السلطة الرمزية، عبر بناء علاقات حقيقية مع المجتمع، لا معه في الصورة فقط. المؤسسات قد تتغير، وقد تبطئ أو تتعثر، لكن المبادرات الفردية والجماعية قادرة على دفع الحقل إلى الأمام، وإلى إعادة تأسيسه بوصفه مجالًا للتجريب، للجرأة، ولإنتاج الحرية والمعنى.

في هذه اللحظة الفاصلة، لا يكفي إدارة الأزمات، بل يجب إدارة الخيال، لا يكفي إعادة تدوير الأشكال بل ينبغي خلق إمكانيات جديدة، ولو كانت هشة ومؤقتة.
إن تجديد الحقل الثقافي في سوريا اليوم ليس إعادة توزيع للأدوار الرمزية، بل هو تمرين مستمر على مساءلة الذات، وعلى الاعتراف بأن الثقافة تُنتج في اشتباك دائم مع العالم، لا فوقه ولا خارجه، وأن من لا يجرؤ على المغامرة في هذه المساحات الجديدة، يخاطر بأن يبقى مجرد صدى متأخر لتحولات لم يعد يمتلك زمامها.

 

الفنون وحقوق الإنسان: تحالف ضروري أم معركة مؤجلة؟

حين نتأمل العلاقة بين الفنون وحقوق الإنسان، لا نواجه خيارًا حرًا أو ترفًا فكريًا، بل نصطدم بجذر وجودي لطبيعة الفعل الفني ذاته. الفن، في جوهره، ممارسة للحرية: حرية التعبير، حرية التخيل، وحرية مساءلة الواقع وإعادة تشكيله، وحقوق الإنسان، في بنيتها الأساسية، ليست سوى تكريس قانوني وسياسي لهذه الحرية، وللكرامة الإنسانية بوصفها غير قابلة للتفاوض.

في السياق السوري، وبعد سقوط النظام، تبدو الحاجة إلى إعادة وصل الفنون بالدفاع عن الحقوق والحريات أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فبينما يجري تفكيك النظام القديم، تتشكل في الخلفية سلطات أمر واقع تسعى إلى إعادة رسم حدود الفضاء العام، وغالبًا ما تحاول احتواء الثقافة والفنون ضمن مساحات رمزية مضبوطة، تتيح حرية التعبير عن الماضي القريب (نقد النظام الساقط)، لكنها تتحفظ أو تمانع في مواجهة تحديات الحاضر الحي (النقد الفعلي للسلطة الناشئة).

ولا تقتصر هذه المحاولات على السياق السوري فقط، بل يمكن رصدها بوضوح في تجارب إقليمية أخرى، لا سيما في بعض دول الخليج مثل الإمارات والسعودية. هناك، يتم ضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية الثقافية والفنية، من متاحف ومسارح ومهرجانات كبرى، ولكن يتم توجيه الفنون بشكل منهجي نحو الترفيه الآمن وتلميع صورة الدولة، بعيدًا عن أية مساءلة سياسية أو اجتماعية بل بالعكس يتم توظيف هذا الزخم والضخامة الإعلامية في التعتيم على المجازر والتواطئ. الفن الذي يجرؤ على مساءلة قضايا الحرية، أو التفاوت الاجتماعي، أو حقوق الإنسان، يُقصى أو يُهمش، لصالح أنماط فنية تُحتفى بها لكونها “عالمية” و”محايدة”، لكنها في جوهرها منزوعة السياق والنزعة النقدية. يتم هنا تحويل الفنون إلى واجهة تجميلية لمشاريع سياسية كبرى، هدفها تثبيت شرعيات جديدة، لا تحرير الفضاء العام أو توسيع إمكانياته.

في هذه النماذج، يتجلى بوضوح خطر أن تتحول الفنون من قوة نقدية إلى ديكور للسلطة، من أدوات اشتباك إلى آليات ترفيه وإلهاء. وهذا الخطر ليس بعيدًا عن السياق السوري الراهن: فحين يُعاد تنظيم الحقل الثقافي بعد السقوط دون ربطه صراحة بقضايا الحقوق والحريات، فإننا نخاطر بإنتاج نسخة معدلة من استبداد رمزي، أقل عنفًا ربما، لكنه أكثر قدرة على مصادرة الخيال.

 

لا نثبت البديهيات، ولكن نستعيد الاشتباك الفعلي

بحسب ما جاء في “An Artist’s Manual Against Apartheid”الصادر عن منصة شبّاك، فإن مقاومة القمع لا تكتمل دون اشتباك الفنون مع الفضاء العام والسياسي

لذلك، فإن إعادة الاعتبار للفنون دورها الدفاعي بوصفها جزءًا لا يتجزأ من حركة الدفاع عن حقوق الإنسان ليست مهمة عابرة، ولا شعارًا للاستهلاك الدولي، بل معركة استراتيجية طويلة النفس. الفن الذي ينهض بمسؤوليته في الدفاع عن الكرامة الإنسانية لا يعبر عن موقف سياسي محدد فحسب، بل يساهم في إعادة تعريف السياسة نفسها: لا كصراع على السلطة، بل كصراع على المعنى، وعلى توزيع الرمزية، وعلى الحق في التعبير، والتخيّل، والحلم.

إن الحركات الاجتماعية الساعية للتغيير مدعوة اليوم، في سوريا وغيرها، إلى احتضان الفنون ليس كأدوات دعاية، بل كفاعلين مستقلين، قادرين على توسيع المخيلة السياسية وابتكار لغات جديدة للتعبير عن الغضب، والأمل، والهزيمة، والنهوض. كما أن الفاعلين في الثقافة والفنون أنفسهم مطالبون بالانخراط العميق في النقاشات الحقوقية والسياسية، لا بوصفهم مجرد “داعمين” لقضايا قائمة، بل بوصفهم شركاء في إعادة بناء الفضاء العام على أسس الحرية والكرامة والمساواة.

الدفاع عن حرية الفن هو دفاع عن الحق في التفكير المختلف، عن الحق في نقد السلطة أينما كانت، عن الحق في تخيّل مستقبل أعدل وأكثر تعددًا. وإذا كان الدفاع عن حقوق الإنسان بدون الفنون والثقافة يبقى قاصرًا، فإن الفنون التي تنكفئ عن قضايا الإنسان الكبرى تفقد تدريجيًا مبرر وجودها، وتتحول إلى ديكور فاقد للحياة، إلى مساحات صامتة يتم تدجينها ضمن منظومات جديدة من السيطرة الرمزية.

إن معركة الفن اليوم، في سوريا ما بعد السقوط، ليست معركة مع الماضي فقط، بل مع الحاضر الذي يُعاد تشكيله، ومع المستقبل الذي لن يُبنى إلا عبر استعادة الحق في التخيّل، والحق في الخطأ، والحق في قول ما يجب أن يُقال، لا ما يُسمح بقوله.

إن قلقنا ليس قلقاً أخلاقياً فحسب، بل قلق معرفي أيضًا: نحن نعرف، بحدس عميق، أن تفكيك العلاقة بين الثقافة وحقوق الإنسان والعمل السياسي لا يعني تحييد الفنون، بل تدجينها. نعرف أن الادعاء بوجود “فن نقي” ليس بريئًا، بل هو فعل قمعي بحد ذاته، فعل نزع الاعتراف عن معاناة الناس، وعن أحلامهم، وعن قدرتهم على إنتاج معانٍ جديدة تقاوم هذا العالم المتخم بالفائض والمراقبة والتفاهة.

Facebook
Twitter
Email
Print

Facebook

Twitter