منذ عدة عقود، تشهد مصر سلسلة من الاحتجاجات السلمية التي تمثل صوت الشعب المصري في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية. وتعتبر هذه الاحتجاجات جزءًا لا يتجزأ من تاريخ مصر الحديث، حيث تمثل نضالًا مستمرًا من أجل تحسين الأوضاع سواء كانت أوضاعا سياسية أم قضايا عمالية أم غيرها. ولا يمكن مناقشة الاحتجاجات السلمية في مصر دون الإشارة إلى ثورة 25 يناير 2011، التي أطاحت بنظام حكم الرئيس السابق حسني مبارك. وقد لعب تصميم ميدان التحرير دوراً هاماً في نجاح التجمعات السلمية وسيطرة المتظاهرين على مداخل ومخارج الميدان. ميادين أخرى لعبت نفس الدور في مختلف المحافظات المصرية، فثمة علاقة وطيدة بين تشكيل العمران وبالأخص تشكيل الفراغ العام للمدينة ونجاح أو فشل الاحتجاجات والتجمعات السلمية.
تأثر العمران بالعوامل السياسية ونشأة المدن وفقا للرؤية السياسية
لقد ظهر تأثير العوامل السياسية على العمران وتشكيل حركته منذ القدم “بصحبة عوامل أخرى” ظهر ذلك في إقامة المدن الإسلامية قديما لتكون حصنا للخليفة وجنوده، وتحصين القلاع من أجل صعوبة الوصول الى الحاكم. ثم ظهر ذلك على العمران المصري في عهد محمد على وأسرته، حيث تشكل العمران وفقا لرؤية وطموحات الخديوي. وقد تم إعادة تخطيط عدد من المدن والقرى وفقاً لآليات السيطرة الأمنية في نظام الباشا، ثم الحقبة الاشتراكية التي كان لها أثر كبير على شكل وهوية العمران المصري، ثم التحول الى سياسات الانفتاح منذ السبعينيات والتوسع فيها وتشكيل العمران وفقاً للايديولوجية الجديدة.
وتلعب الاحتجاجات الاجتماعية والتمردات دوراً هاماً في تشكيل وتوجيه حركة العمران المصري، شبيهاً بالدور الذي لعبته الاحتجاجات قديماً في تشكيل عمران مدينة باريس التي ولدت على ركام المدينة القديمة أثناء الثورة الفرنسية 1884، حيث كانت تمتاز المدينة القديمة بضيق الشوارع التي يحتمي بها المتظاهرون ويصعب مطاردهم من قبل القوات الأمنية، فأمر نابليون الثالث بهدم هذه المدينة والتخطيط لمدينة جديدة متسعة الشوارع ليسهل القضاء على أية احتجاجات.
خنق العمران لخنق ما بداخله
بقياس عامل الاحتجاجات والتظاهرات السلمية نجد أن العمران مؤثر ومتأثر. وقد شهدت مصر بعد عام 2014 تحوّلًا كبيرًا في البيئة السياسية والأمنية، حيث اتخذت السلطات المصرية إجراءات قوية لمواجهة الاحتجاجات السلمية، مما أدى إلى تقليص حرية التعبير وتقويض الديمقراطية. فبعد سقوط حكومة محمد مرسي في عام 2013 وتولي حكومة عدلي منصور المدعومة من الجيش، ثم تولي وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي رئاسة الجمهورية في 2014، شهدت مصر تحولات وتشديدات قانونية لقمع حرية التعبير وعدم السماح بتكرار ثورة يناير مرة أخرى، الأمر الذي اعتاد السيسي على تأكيده في معظم خطاباته. هذه التضييقات ارتكزت على عدة محاور تمثلت في فرض القوة الأمنية، وتشريع قوانين جديدة، وكان للسيطرة على العمران وخنقه دورا كبيراً في هذا التضييق.
متاريس وسط البلد وبوابات العاصمة الإدارية الجديدة
كان لاحتجاجات الشارع المصري تاريخ طويل من التواجد أمام المباني الحكومية الرئيسية، مثل مقر مجلس الوزراء، ومقرات الوزارات، والمحافظات، والمجالس التشريعية، والمقرات النقابية. بالإضافة إلى ذلك، لعبت الميادين العامة دورًا حيويًا في تمكين هذه الاحتجاجات. مثال بارز على ذلك هو الفراغ العام المحيط بقصر الاتحادية-مقر إقامة رئاسة الجمهورية، الذي استضاف عدة احتجاجات واعتصامات من كل الأطراف، سواء المعارضة أو المؤيدة. ولكن بعد عام 2014، سعت الحكومة المصرية إلى تجنب تكرار هذه الاحتجاجات في المواقع الحيوية نفسها.
التخوف من تكرار الاحتجاجات في المناطق الرئيسية دفع الحكومة إلى اتخاذ تدابير تهدف إلى السيطرة على البيئة العمرانية والسياسية، ما أظهر تحولًا في التعامل مع المساحات العامة لتجنب أي تأثير مستقبلي من الحركات الاحتجاجية. بدأت هذه التدابير بإصدار قانون التظاهر الذي تم استناداً عليه اعتقال عدد كبير من النشطاء بموجب مخالفته، وكذلك القضاء على أية مظاهر للتجمعات أمام المباني الحكومية. فصدرت تحذيرات للمتظاهرين/ات بعدم التواجد أمام المنشآت العامة. كذلك حكمت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة بمنع التظاهر أمام مجلس الوزراء والأماكن المحيطة به. وصاحَب هذه التضييقات تغييرات عمرانية هدفت إلى خنق المجال العام، ليتغيّر شكل الفراغ العام لعمران وسط البلد.
فعلى غرار أصحاب المحلات التجارية والمقاهي الذين يقتطعون لأنفسهم جزءا من الفراغ العام لعرض منتجاتهم، اقتطعت الحكومة المصرية لهيئاتها مساحات عريضة من الشوارع ووضعت متاريس خرسانية أمام مقرات الوزارات والسفارات. سبق هذا في عام 2011 إقامة الجيش المصري جدار فولاذي كبير في شارع محمد محمود لمنع وصول المتظاهرين/ات الى وزارة الداخلية. هذا التأمين والتحصين تجاهل تماماً تغيير شكل هوية بصرية امتازت بها القاهرة في مقابل السيطرة على الاحتجاجات السلمية ومنع أية تظاهرات.
العاصمة الإدارية هي واحدة من أهم المشاريع العمرانية التي تشهدها مصر في الوقت الحاضر، وهي إحدي مشروعات مخطط القاهرة 2050. بالطبع ليس بالمقدور الجزم بأن العاصمة الإدارية الجديدة تم انشاؤها بالأساس لتكون حصناً عسكرياً للرئيس المصري وحكومته بقدر ما هي مشروع استثماري طبقي يؤسس لـ “فرعون” محاط بالمباني الضخمة. لكن ما يمكن توقعه هو صعوبة الخروج منها في حالة السماح بالدخول للاحتجاجات. وقياساً على الملاحقات الأمنية التي تطال المتظاهرين/ات بعد انتهاء فعالياتهم في وسط القاهرة، فإن عملية نقل الوزارات والهيئات الحكومية إلى مكان محصن بأسوار شاهقة وبوابات ضخمة، يجعل السيطرة الأمنية أقوى ومحاصرة المتظاهرين وسرعة القضاء على أية تجمعات أكثر سهولة.
السيطرة على الميادين العامة
أدركت الحكومة المصرية أن السيطرة على الميادين العامة أمراً بالغ الأهمية لمنع التكرار التجمعات الثورية التي تؤرق رئيس الدولة. فميدان التحرير ذو دلالات رمزية عميقة في وجدان الشعب المصري واسمه مرتبط بالتحولات السياسية التي شهدتها البلاد. إلا أن هذه الرمزية تغيرت مع مرور الوقت، بداية من زيادة التواجد الأمني في الميدان، حيث أصبح محاطًا بإجراءات أمنية صارمة، ثم التغييرات التي حدثت في تصميم الميدان وشكل البنية التحتية التي تشير إلى محاولة السلطات إعادة تعريف هذه الرمزية.
تقول الباحثة أمنية خليل أن ثمة عسكرة للفراغات العامة، فميدان التحرير الذي شهد تجمعات ضخمة من المعارضين/ات للأنظمة في فترات مختلفة، بات شبه مهجور إلا من السيارات العابرة. ومع بناء النصب التذكاري للشهداء/الشهيدات في وسط الميدان، والذي دمرته مجموعات معارضة احتجاجًا على السلطة، أصبح تواجد قوات الأمن دائمًا على مدار الساعة. وقد اعتقل عدد من الأشخاص لمجرد محاولتهم التقاط صور فوتوغرافية للميدان أو محاولة التظاهر لأسباب مختلفة. وقامت المحافظة بتجديد الميدان، وأضافت عمودًا معدنيًا ضخمًا يرفع علم مصر، معتبرةً أنه رمز وطني، بينما رآه البعض نوعًا من الاحتلال العسكري للميدان. ثم افتُتح “كراج التحرير”، وتم منع انتظار السيارات في الميدان والشوارع المجاورة، ما أدى إلى تغييرات جذرية في نمط النشاطات في تلك الشوارع، مما أثر على شعور المارة والسكان، وصار وسط المدينة مكانًا غريبًا على سكانه ورواده المعتادين.
اتسع إحكام السيطرة الحكومية على ميدان التحرير والقضاء على رمزيته حتى طالت معظم الميادين الهامة في مصر، ففي مدينة المحلة الكبرى تم القضاء تماما على ميدان الشون، الذي شهد الشرارة الأولي للثورة المصرية والتي بدأت بإضراب عمال المحلة في 6 أبريل 2008 وإسقاط صورة مبارك، فتم اشغال الميدان أولا بأعمال انشائية لنصب تذكاري مجهول الهوية لم يكتمل بناؤه حتى اليوم، ثم تم حصر المكان من الأعلى بإنشاء جسرين متقاطعتين، لتسهيل صعود قوات الأمن أعلى الجسور لفض أية تظاهرات. الأمر نفسه تكرر مع ميادين مدينة نصر وأهمها ميدان رابعة العدوية، الذي استخدمته جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها للاعتصام بعد بيان الجيش في يوليو 2013 بعزل محمد مرسي، ووجدت قوات الأمن صعوبة كبيرة في اختراق الإعتصام حتى تم فضه بالقوة في أغسطس من العام نفسه، فتمت السيطرة الأمنية على الميدان بإنشاء جسرعلوي يشقه من المنتصف، وبالتالي تسهل حركة قوات الشرطة والسيطرة على أية محاولة للتواجد داخل الميدان.
إعادة هيكلة الخريطة السكانية وتطوير المناطق العشوائية
لا شك أن الحكومة المصرية، منذ ما يقرب العقد من الزمن، تولي اهتماماً كبيراً بتطوير المناطق العشوائية، ونقل سكان المناطق المتدهورة الى مناطق سكنية بديلة. لكن من الواضح أيضاً أن المناطق السكنية الجديدة ترعى بتصميمها العوامل الأمنية عبر اعتماد أسلوب التخطيط الشريطي، الذي تكون فيه خطوط الرؤية مفتوحة، والشوارع الرئيسية واسعة تسهيلاً لحركة المرور الآلي بالتالي سهولة حركة سيارات القوات الأمنية. ويظهر ذلك جلياً في تخطيط حي الأسمرات، وهو المشروع الأكبر الذي أعلنت عنه الحكومة المصرية لنقل سكان المناطق العشوائية إليه، حيث يخلو الحيّ من الفراغات العامة التي تساعد على التجمعات و من ممرات المشاة، حيث لا مكان للفرد في الشارع.
ويرى الكاتبين أحمد عبد الحليم وعبد الرحمن عادل، أن سكان المناطق العشوائية كثيراً ما كانوا مؤرقين للنظام المصري، حيث عُرفت هذه المناطق، التي تعاني من مستويات متفاوتة من الفقر، بتاريخها الاحتجاجي المشتعل بالغضب، كما حدث خلال ثورة يناير، حيث كان مثلث ماسبيرو من بين حماة ميدان التحرير. كما أظهر سكان تلك الأحياء براعة في مقاومة سياسات القمع البوليسي التي تهدف إلى سحق أي حركة احتجاجية، فسعت السلطة إلى تفكيك هذه الكتلة التي يمكن أن تنفجر في وجهها في أي وقت، وذلك من خلال نقل السكان إلى مجتمعات سكنية جديدة في مواقع وأوقات قد يصعب عليهم التكيف معها، حيث يواجهون صعوبات مالية في التنقل بين مساكنهم الجديدة وأماكن عملهم القديمة. إلى جانب ذلك، يؤدي نقلهم إلى تفكيك الروابط الاجتماعية والعلاقات التي تطورت بينهم على مدى عقود. فهذا التنظيم يساعدهم في مواجهة تحديات الحياة الاجتماعية والسياسية، لكنه سيفقد قوته تمامًا في الأحياء الجديدة التي سيعيشون فيها، حيث ستكون محاصرة بنظام أمني ورقابي يمكنه التعرف على المشتبه بهم واعتقالهم.
خاتمة
إن الحكومة المصرية استوعبت تمامًا الدور الذي لعبه النسيج العمراني المصري، ولا سيما منطقة القاهرة الخديوية، في تمكين المواطنين من السيطرة على المساحات العامة وتعطيل عمل المؤسسات الحكومية أثناء الاحتجاجات والاعتصامات. لذا لم تدّخر الحكومة المصرية جهدا في مجابهة هذه الاحتجاجات لمنعها من التأثير على حركة المدينة. ولما كان للعمران من سطوة كبيرة، فقد تعمدت تغيير شكله والقضاء على فراغاته بما يتماشى مع عمران الثكنات العسكرية، الذي تكون فيه المساكن كتل خرسانية، والشوارع حواجز معيقة لحركة المرور، وسهلة الرؤية للجنود المتحصنين. ثم ظهرت مناطق عمرانية مخصصة “للطبقة العليا”، ليتم نقل كبار رجال الدولة إلى العاصمة الإدارية الجديدة الواقعة خارج نطاق القاهرة والمحاطة بالأسوار، مما يفصلها بشكل فعّال عن حياة السكان العاديين.
هذه التغييرات العمرانية تعكس استراتيجيات الحكومة في محاولة قمع التجمعات السلمية من خلال إعادة تشكيل النسيج العمراني. حيث يتم تصميم المساحات العامة بشكل يقلل من احتمالية التجمع والاعتصام، مما يُسهّل على قوات الأمن السيطرة على أي تحركات احتجاجية. ونتيجة لذلك، نجحت الحكومة المصرية حتى الآن في تقليل تأثير الاحتجاجات السلمية عبر خنق الفضاءات العمرانية وخنق النشاطات التي كانت تحدث داخلها “حتى الآن”.