Search
Close this search box.

الخيال في مواجهة القمع: عن القمع الأمني في مصر، والناشطية الفنية، والحق في التعبير والتجمّع.

منذ ما يقرب من العام، تم القبض على رسّام كاريكاتير مصري اسمه أشرف عُمر من قبل الأمن الوطني في مصر على خلفية رسوماته التي ينتقد فيها النظام، ثم بعد شهور تم القبض على صحفي أجرى حوارًا مع زوجته -تم القبض على زوجته أيضًا قبل أن يتم إخلاء سبيلها-، ليُضافا إلى 60,000  مُعتقل في السجون المصرية وفقًا لآخر تقرير غير رسمي -لا يوجد تقارير رسمية وأرقام من الدولة تتحدث عن أرقام دقيقة-، وعلى الجهة المُقابلة تطلب ألسنة النظام الاصطفاف الوطني لأننا في وضع غير مستقر وعلى شفا حرب إقليمية، أي أن لا مانع من ضياع حياة عشرات الآلاف في السجون لأن الوقت غير مُناسب. في الوقت نفسه، نجد أن القمع الذي يمارسه النظام المصري لا يتخذ فقط شكل الاعتقال كنتيجة أو عقاب على فعل النقد المباشر، بل هو فلسفة يتبعها بشكل أكثر عمومًا لقتل الإبداع، ليبقى كُل شيء مُحدد ومُتوقع وتحت السيطرة، ويمكن أن نرى ذلك من خلال احتكار الأجهزة الأمنية للإنتاج التليفزيوني من خلال إحدى شركات الإنتاج المملوكة لها، واحتكارها للقنوات التليفزيونية، والرقابة الشديدة على المنصات الرقمية المُستقلة للصحافة وحجبها، والرقابة على الأعمال الفنية في كُل قطاعات الفنّ، بالإضافة إلى الرقابة الشديدة المُمارسة أصلًا على الحياة اليومية للمواطنين في الشارع والتضييق الأمني عليها، فرغم التعداد السُكاني الذي يتخطى ال100  مليون، غير مسموح بالتجمُعات بكُل أشكالها، وبالتالي، هُناك غياب تام لكل أشكال التعبير السلمي الجماعي أو الفردي عن الرأي؛ وفي ظل الوضع الاقتصادي المأزوم الذي يعيشه المصريون، والوضع السياسي الخانق، والوضع الاجتماعي المشحون بالعُنف والكبت والتهميش علاوة على التكلّس الفكري والثقافي بسبب رد الفعل الأمني على كُل إنتاج فني أو ثقافي حقيقي يطرح تساؤلات جادة عن الوضع الراهن أو ينتقد السلطة وممارستها بأي شكل.

الناشطية الفنية كأداة مقاومة 

هُنا يُمكننا أن نتحدث عن مُصطلح Artivism الذي يعني ببساطة استخدام الفن كوسيلة للنشاط السياسي والاجتماعي، وهو يعكس ممارسات موجودة منذ ستينيات القرن الماضي من خلال الفن الاحتجاجي المواجه للحروب والديكتاتوريات والتمييز العُنصري، مثل أغاني فيكتور خارا، الفنان المُعارض لبينوشيه الذي تم إعدامه في تشيلي، والعروض الأدائية التي قدّمها مجموعة “guerilla theater” في الولايات المتحدة احتجاجًا على حرب فيتنام. هُناك أيضًا العديد من الأمثلة في عالمنا العربي خصوصًا بعد ثورات الربيع العربي مباشرةً، مثل فرق الموسيقى المُستقلة في مصر كايروكي، ورامي عصام، وفي لبنان مشروع ليلى، وغيرهم. والناشطية الفنية تختلف عن الفن التقليدي في الهدف والأسلوب والوسائل، حيث يهدف الفن التقليدي إلى التعبير الجمالي أو التعبير عن أفكار فلسفية وشخصية، بينما يهدف الفن التقاطعي أو الناشطية الفنية إلى إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي، من ثمّ لا يخاطب النُخبة والمثقفين وحسب، بل يكون موجه إلى الشريحة العريضة من الجماهير، بل وجُزء أساسي منه أن يكون تفاعليًا، لا يكون الجمهور مُجرد مُشاهد للتقييم، بل شريكًا في فاعلًا، مثل مشروع ألوان من الزعتري لدعم اللاجئين السوريين في الأردن، وتم إشراك اللاجئين من الأطفال في الرسم.

والفنّ في جوهره كخيال، لا يعترف بالحدود، دائمًا يجد الحلول ويراوغ القيود، فمن خلال الرمزية والإيحاء يمكن الهروب من فخاخ الرقابة الأمنية، إضافة أنه لُغة لا تحتاج إلى ترجمة، ففي إسبانيا أثناء حُكم فرانكو في الفترة من 1936  إلى 1975، استُخدم المسرح الرمزي أو مسرح اللا إيضاح وهو شكل من أشكال المسرح يتعمّد الغموض والرمزية بدل من السردية والحوار في المسرح الكلاسيكي، ومن أبرز من قدمه وقتها الشاعر والكاتب المسرحي الأسباني فيديريكو جارثيا لوركا، وهذا كان ردًا على الرقابة المطلقة وتحريم النقد سواء للكنيسة أو للسلطة، فتم الاعتماد على الرموز التاريخية والاسطورية لتمثيل الواقع المُعاصر، كما كان يُستخدم الفضاء المسرحي (السياق المكاني للمسرحية) كرمز، والاعتماد على الجسد والحركة كتعويض عن الحوار.
هذه أسباب تجعل الفن أداة مُهمة وفعّالة ضد القمع، بالإضافة إلى المرونة وتعدد الأساليب والطرق التي يتيحها الخيال للفنّان للاشتباك المباشر أو الغير مباشر، بالإضافة إلى تشكيل الوعي والحفاظ على الذاكرة الجمعية وقدرته على إعادة كتابة السرديات خصوصًا في السياق الذي نتحدث فيه عن مصر كمثال، نجد أن الدولة تُنفق الملايين للترويج لسردية نظامها الحاكم الحالي من خلال الأعمال التليفزيونية كمسلسل الاختيار والأغاني المُمجدة للأجهزة الأمنية وغيرها من طُرق، لذا من الضروري وجود سردية أخرى أكثر موضوعية وأقرب للحقيقة، فالفن أيضًا أرشيف حي للذاكرة الجماعية وأثره بعيد المدى.



التحديات التي يواجهها الناشطية الفنية، في مصر مثالًا

القبضة الأمنية الحديدية التي تنال أي صوت مُعارض، تجعل من الناشطية الفنية خطرًا على من يمارسه كحال كُل أي نشاط احتجاجي أو اعتراضي آخر، حتى لو كان مُزحة، فكما ذكرنا في البداية واقعة القبض على رسام الكاريكاتير أشرف عُمر، وهو ليس الأول ولن يكون الأخير في ظل وجود نيابة أمن الدولة وتُهم نشر الأخبار الكاذبة والإنضمام لجماعة إرهابية والقوانين القمعية مثل قانون مكافحة الإرهاب 94/2015 وقانون الجرائم الإلكترونية 175/2018، بالإضافة إلى ما يتعرض له بعض الفنّانين في المنفى من حرب إعلامية تهدف تشويه سمعتهم ووصمهم بالخيانة والجاسوسية، مثل ما يحدث مع الممثلين عمرو واكد وخالد أبو النجا مثلا.

بالإضافة إلى ما تقوم به الدولة من تقييد الفضاءات المستقلة والرقابة الحيّة، ويمكن الإشارة إلى إغلاق مركز تاون هاوس الثقافي في 2015، والرقابة على المُحتوى الرقمي أيضًا، ففثي عام 2017 قامت السلطات المصرية بحجب موقع مدى مصر، المنبر الإعلامي المُستقل الذي من ضمن نشاطاته تسليط الضوء على الفن وحركته، مع تغطيتها للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد، وبجانب الرقابة والحجب والمنع والاعتقال؛ تأتي التحديات الاقتصادية والمالية، حيث نُدرة الجهات الداعمة للفنون المستقلة من ناحية، ومن ناحية أخرى خوف الجهات المانحة والشركات المُنتجة من الصدام مع السلطة، والقيود المفروضة أصلًا على المنظمات والجمعيات الفنيّة الداعمة للفنون والثقافة.

استراتيجيات وحلول

بطبيعة الحال، الأمر ليس سهلًا على الإطلاق، وليس هُناك حلولًا سحرية، لكن انطلاقا من بعض التجارب التاريخية، ومع مزيد من القراءة والفهم للواقع الحالي وديناميكياته وقوانينه، يمكن أن نبدأ في التفكير في طُرق كسر الحصار المفروض على الفن والإبداع وعزله عن الواقع، وخلق مساحات بديلة للتعبير وتجاوز القيود المفروضة بحيث يصبح الفنّ ليس مجرد مساحة معزولة أو نخبوية، بل أداة مقاومة يومية تؤثر وتُلهم وتُحدث أثرًا مستمرًا، حتى في أكثر البيئات قمعًا.


القبضة الأمنية

يظل التحدّي الأكبر الذي يهدد سلامة وأمن الفنّانين والمُبدعين، والأمر الذي يفرض البُعد عن المُباشرة، كما فعل فناني المسرح في أسبانيا أثناء حُكم فرانكو باستخدام نوع من المسرح موجود من قبل، لكن تم تطويعه ليناسب السياق الاجتماعي وقتها واستخدام رموز وأساطير دينية مرتبطة المُجتمع الاسباني وقتها، لا يعني هذا استخدام شفرات لا تُفهم، لكن على الأقل تطرح تساؤلات تُترك للمُتلقي، وتُحفزّ خياله وقدرته على التفكير النقدي، يمكن أن نستلهم من هذا تجاوز أشكال الإنتاج الفنّي والإبداعي التقليدية والبحث عن طُرق ووسائل جديدة لتناول القضايا المُلّحة بشكل غير مباشر.

وبما أن هذا لا يُنحّي الخطر بالكامل، فيجب توفير شبكات حماية محلّية ودولية من منظمات حقوقية أو نشطاء مُدافعين عن حقوق الإنسان للدفاع عن الفنّانين النشطاء في الداخل أو في المنفى لزيادة الضغط على الأجهزة الأمنية واكتساب مزيد من المساحات للتعبير والحرية مستقبلًا، ومن ثم القدرة على صناعة التغيير.

 

احتكار الدولة للإنتاج الإعلامي والفنّي

هُناك حاجة ماسّة للبحث عن طرق غير تقليدية للإنتاج الفني بما يتناسب مع الوضع السياسي والاجتماعي الراهن في مصر، حاليًا بالاعتماد على المنصات والجهات المُستقلة للإنتاج، يمكن مواجهة احتكار الدولة للإنتاج، لكن هذا يخلق تحديًا آخر وهو ندرة الجهات المانحة أو المُنتجة التي تقبل العمل المواجه للنظام، خصوصًا الجهات التي تعمل داخل البلاد، هذا يتطلب مزيد من الفعاليات الفنيّة والثقافية من المنظمات الفنية والثقافية لزيادة الإنتاج الغير حكومي وتوفير مزيد من المساحات الإبداعية للفنانين النشطاء.

 

الرقابة وحجب المُحتوى

يمكن البدء بالبحث عن سبل استخدام المنصات الرقمية الغير قابلة للحجب، وزيادة الوعي الرقمي لكلّا من الفنانين النشطاء والمُتلقّين يمكنها أن تفتح آفاقًا وتبتكر حلولًا تقنية لتجاوز الحجب والمنع للمحتوى الرقمي، فكما حدث في مصر ابتداءًا من عام 2017، بعد حجب العديد من المنصات المستقلة مثل مدى مصر -وهو مازال مُتبعًا حتى الآن من قبل السلطات التي حجبت موقع زاوية ثالثة  منذ أيام لينضم لقائمة الحظر- لجأ نشطاء في مصر وتونس لاستخدام مواقع تبادل الأكواد مثل GitHub  لمشاركة تقارير ومقالات توثق انتهاكات حقوق الإنسان ضمن أكواد برمجية غير ضارة قابلة للتنزيل والقراءة. ماذا لو توفرت بعض التدريبات الرقمية للفنانين الرقميين؟ أتصوّر أن هذا سيُنتج المزيد من الطرق لتجاوز الحجب والمنع الرقمي.

 

التحديات الاقتصادية والمالية

بوجود منصات الكترونية مثل patreon  و kickstarter ، يمكن البدء في التفكير وإيجاد حلول وطرق بديلة لدعم المشروعات الإبداعية، عوضًا عن الطرق التقليدية، فالتمويل الجماعي والشراكات مع منظمات وجهات داعمة يمكن أن تضيف أرضًا أكثر صلابة للإنتاج الفني التقاطعي، وتوّفر بدائل إنتاجية خارج سيطرة الدولة، كما يمكن الاستلهام من تجارب المُقايضة الفنية، المبنية على فكرة الاقتصاد الفني التشاركي الذي قام به الفنانين في الأرجنتين لتبادل المهارات والخدمات التقنية عوضًا عن المال خلال الأزمة الاقتصادية في أواخر التسعينات وأول الألفية، مما مكن الفنانين الاستمرار في إنتاج أعمالهم الفنية ومشاركتها مع المجتمع دون الحاجة للرعاية الحكومية، ولتطبيق هذا النموذج في مصر، يمكن الاستثمار في مزيد من المهرجانات الفنية الغير تجارية، وتعزيز الشراكات بين الكيانات الفنية المستقلة والأفراد وإنشاء منصات التبادل الفني والمشاركة، كما يُمكن الاستفادة من الأماكن المهجورة والمُهملة في مصر لتحويلها إلى مساحات للتدريب الفني أو العروض الحيّة.

 

الذاكرة الجمعية والسرديات البديلة 

إنشاء أرشيف رقمي مقاوم للرقابة يمكن أن يكون حلًا لتشويه ودمججة الذاكرة الجمعية التي تقوم بها الدولة بشكل مُتعمد، ليس فقط من خلال إنتاجها للأعمال الضخمة التي تخدم سرديتها البعيدة عن الحقيقة والمنطق، بل عن طريق حذف ومنع كل ما هو مُعادي لهذه السردية أيضًا، توثيق القصص والتجارب الشخصية عبر مدونات تضم الأعمال التوثيقية يمكنه الحفاظ على سردية بديلة وضمان وجودها والبناء عليها مُستقبلًا، كما أنه من المُهم تسجيل شهادات الفنانين والصحفيين الذين تعرضوا للقمع ونشرها في أرشيف مفتوح على غرار ويكيليكس. من المُهم أيضًا إعادة تعريف الفن كأداة توثيق بإنتاج أعمال (قصص، أفلام، معارض) وثائقية تعتمد على شهادات حقيقية وقصص حيّة كدليل على البقاء وحفاظًا على الصوت المضاد للقمع.

وفي النهاية، المعركة ليست من أجل حرية الفن في حد ذاته فقط، بل من أجل حرية الذاكرة والهوية والتاريخ، فالفن قادر على إعادة رسم المشهد وإحياء الأمل دائمًا، كما هو قادر بمرونته ولامحدوديته القادمة من الخيال على مواجهة القمع ومراوغته بشتى الأساليب، فالفنّ الناشط أكثر من مجرد وسيلة للإبداع، هو أداة قوية وفعّالة للنضال ومقاومة، وسلاح لمواجهة محاولات السلطة لطمس الحقيقة واحتكار السردية رغم التحديات الكبيرة كما أثبتت تجارب الشعوب المختلفة على مرّ التاريخ.

Facebook
Twitter
Email
Print

Facebook

Twitter