في العام 2019 اكتسحت موجة من النشاط النسوي فلسطين، لتوحّد النساء من حيفا إلى القدس تحت راية “طالِعات”. أثار القتل الوحشي للشابة “إسراء غريب” وحوادث قتل النساء المتزايدة، الغضب، فانبثقت هذه الحركة القاعدية الجماهيرية من رحم الإحباط جراء العنف القائم على النوع الاجتماعي والقهر الأبوي. خرجت النسوة للشوارع بأعداد لم يسبق لها مثيل، ليستردوا الحيِّز العام ويتحدّينَ كلًّا من النظام الأبوي الفلسطينيّ والاستعماري الإسرائيلي. بوسائلها المباشرة الجريئة، سريعا ما اكتسبت “طالِعات” حضورا قويا في النشاط الفلسطينيّ، رافضة التوافق مع والانصياع إلى الهياكل التنظيمية النسوية التقليدية.
تحدت تعبئة طالعات، بضمن ذلك المسيرات والاعتصامات في مدن مثل حيفا، رام الله، والقدس، كلًّا من النظام الأبوي الفلسطينيّ وقمع دولة إسرائيل. تختلف نظرة الحركة للنشاط النسوي جوهريا عن الجهود النسوية الفلسطينيّة الأخرى، التي كانت في أغلب الأحيان مؤسّسة من بين المنظمات غير الحكومية ومرتبطة بكفاح حركة التحرير الوطنية.
على أيِّ حال، وعلى الرغم من حضورها القوي، فإن الحركة وبحلول العام 2025، انحسرت بشكل كبير من الشوارع الفلسطينيّة. فما الذي شكلته طالعات كتحدٍ للنشاط النسوي التقليدي؟ ولماذا انحل رباط الحركة؟، وهل يمكن اعتبارها محاولة فاشلة لتفكيك كلا من النظام الأبوي والاستعماري في فلسطين؟
استراتيجيات طالعات: الانعتاق من الأطر التقليدية
كانت استراتيجيات طالعات في النسوية التقاطعية (أو تقاطع أشكال التمييز، فرع نسوي يؤكّد على تشابك التمييز في جميع أشكال الهويات السياسية والاجتماعي – المترجم) وتفكيك الاستعمار، إطار يربط العنف القائم على النوع بنظم أوسع من القهر، بما في ذلك الاستعمار الإسرائيلي والمصاعب الاقتصادية. جادل هذه التقارب بأنّ النظام الأبوي لم يكن فقط قضية محليّة لكن يرتبط بشكل معقّد بالاحتلال. هذا المنظور تناغم مع العلماء والباحثين الفلسطينيّين الذين دعوا لمدة طويلة لإطار نسوي يربط بين عدالة نوعية ومقاومة الاستعمار (صايغ، 2021.)
بالمقارنة مع المنظمات النسوية الأكثر تقليدية، رفضت طالِعات المأسسة (العمل بهياكل والإشهار كمنظمة أهلية) والتمويل الأجنبي، واختارت بدلا من ذلك التعبئة القاعدية والعمل المباشر. هذا الرفض لتشكيل منظمة غير حكومية كان يميز طالعات، وبينما أبقى ذلك على سلامة الحركة، فإنه خلق تحديات أيضا تتعلق بضمان المصادر المالية واللوجستية التي تحتاجها الحركة لضمان ثبات واستمرار عملها. تواجه الحركات النسوية الفلسطينيّة في أغلب الأحيان معضلة موازنة استقلالها الجذري بمواجهة التمويل المؤسسي (وشروطه) الضروري للاستمرارية على المدى الطويل (شلهوب كيفوركيان – 2019).
تحليل مقارن: طالِعات مقابل الحركات النسوية الأخرى
يمكن مقارنة تقارب طالعات بغيرها من الحركات عالميا، وهو ما يلقي الضوء على نقاط قوتها ومحدداتها. فبينما نجحت الحركة في تعبئة المظاهرات والفعاليات بالشوارع فإن تفاعلها المحدود مع المؤسسات السياسية والإعلامية ساهم كعامل في معاناتها في الحفاظ على استمرار الزخم وتحقيق تغييرات سياسية ملموسة.
- “مسيرة النساء (الولايات المتحدة الأمريكية، 2017 وحتى الآن): عبّأت مسيرة النساء الملايين لكنها واجهت انقسامات داخلية لاحقا، وعانت لترجمة الاحتجاجات إلى تغييرات سياسة. ومثل طالعات، صادفت أيضا صعوبات في إبقاء زخم ونجاح البدايات.
- “ني أونا مينوس (الأرجنتين، 2015 وحتى الآن): هذه حركة بأمريكا الجنوبية، (والاسم Ni una menos. هو جملة بالإسبانية تَعني “ولا إحداهن أقل” و أخذت المجموعة اسمها عام 1995 من العبارة التي كتبتها الشاعرة والناشطة المكسيكية سوزانا تشافيز “Ni una muerta más”) احتجاجًا على جرائم قتل الإناث. و نجحت في الضغط على الحكومات لتقديم الإصلاحات القانونية، وتواصلت وتفاعلت مع المؤسسات السياسية ووظفت الحملات الإعلامية للتأثير على الرأي العام. تردّد طالعات في التفاعل مع الهياكل السياسية والإعلامية شكّل حاجزا محوريا في إنجاز انتصارات مماثلة.
- “ثورة النساء السودانيات (2019): دمجت النساء السودانيات نشاط وفعاليات الاحتجاج بالشارع بالارتباط بالعمل السياسي والاستراتيجي، بما أفضى إلى تغييرات قانونية. رفضت “طالِعات” التحول لمنظمة، ومع التحديات اللوجستية، بات صعبًا إنجازُ نتائج مماثلة بمواجهة احتلال استعماري ومقاومة أبَوية من الداخل الفلسطيني.
يقترح التحليل المقارن أنّ نموذج قاعدة طالِعات الجماهيري القاعدي، نجح بقوة في توليد الوعي، لكنه واجه عراقيل في ضمان إحداثها تغييرات سياسية، دون أن يكون لديها ارتباط واشتباك مؤسساتي. على أيِّ حال، يعتبر رفضها للعمل بهياكل القوّة التقليدية أمرا مغايرا للاستراتيجيات المؤسّسية الموجودة وقتها بين الحركات الأخرى.
لماذا توارت طالعات؟
ساهمت عدّة عوامل في تراجع وخفوت طالِعات، بما جعل الأمر صعبا على الحركة لإبقاء حضورها في الفضاء المدني الفلسطينيّ:
- “قلة الدعم المؤسساتي: رفض طالِعات أن تصبح منظمة غير حكومية أو تقبل تمويلا أجنبيا أبقى سلامة قاعدتها لكن ترك الحركة بدون المصادر الضرورية للنشاط طويل المدى. هنا تتضح المقارنة مع حركات مثل ني أونا مينوس، التي دمجت العمل المباشر مع نشاط المناصرة السياسية والإعلامية.
- “القمع ورد الفعل الغاضب مجتمعيا: واجهت طالِعات رد فعل غاضب، ليس فقط من التيارات والقوى المحافظة، لكن أيضا من بعض المجموعات القومية التقدمّية التي نظرت لنشاط “النوع” كعمل ثانوي يأتي بعد الكفاح ضدّ الاحتلال. خلق ردّ الفعل هذا من الدوائر الأبوية والسياسية تحديا إضافيا لزخم طالعات.
- “غياب الارتباط بالسياسة: على خلاف الحركات النسوية التي حققت انتصارات تشريعية، لم تفضل طالعات الارتباط بالسياسة، مما حدّ من قدرتها على الدفع بإصلاحات قانونية أو تغييرات ملموسة.
- “قيود جغرافية سياسية: تجزؤ الأراضي الفلسطينيّة، اقترن بالموانع اللوجستية التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي، أعاق قدرة طالعات على تشكيل نمط عمل مميز لها. كما أن تركيب الحركة غير المركزي جعلها عُرضة للزوال.
- “وباء كوفيد-19: أجبر الوباء طالعات للانتقال إلى النشاط الرقمي، يعرقل احتجاجات الميدانية. بالرغم من أن مواقع الإنترنت سمحت لها ببعض الاستمرارية، فإن حضور الحركة الميداني تراجع بشكل ملحوظ.
خواطر ناشطة: هل فشلت طالعات؟
بينما لم تصدر رسميا بيانات ما بعد الحركة، فإن مراجعات من الناشطات السابقات بها يطرحون مشاعر متباينة. بعض وجهات النظر تعتبر الحركة تجربة راديكالية ضرورية تحدّت الوضع الراهن، بينما يقر آخرون بمحدوديتها في إنجاز تغيير هيكلي. أبدت ناشطات سابقات بالحركة اعتقادهن أنها كانت ضرورية لإثارة الجدل المطلوب حول المقاومة النسوية والعنف القائم على النوع، رغم غياب الإصلاحات القانونية الملموسة. تواصل العديد من النساء اللواتي شاركن في طالعات نشاطهن في مبادرات أصغر للمساواة بين الجنسين، وهن بهذا يبقون روحها حيّة بأشكال مختلفة. يُبرز هذا الانخراط المستمر تأثير طالعات الدائم، رغم قلة حضورها الفعلي على الأرض.
الخاتمة: دروس للحركات النسوية مستقبلا
تقدم الحركة دروسا للجديد من الحركات المشابهة في فلسطين وخارجها، منها:
- “موازنة الراديكالية والاستمرارية: يجب أن توازن الحركات القاعدية الجماهيرية بين الاستقلال المبدئي والحاجة للدعم المؤسساتي لضمان الاستمرارية على المدى الطويل.
- “أهمية التقاطعية: يتطلَّب التعاطي مع العنف القائم على النوع في فلسطين المحتلّة نظرة تربط العدالة النوعية بالكفاح الأوسع ضدّ الاستعمار وعدم المساواة الاقتصادية. نظرة طالعات التقاطعية كانت ذات دور فعّال في إبراز ترابط هذا النوع من النضال.
- “التعلّم من الحركات العالمية: بوسع الحركات النسوية الفلسطينيّة مستقبلا الاستفادة من الاستراتيجيات المطبقة من قبل هذه الحركات، مثل ني أونا مينوس، التي دمجت العمل المباشر باستراتيجية الحملات الإعلامية والارتباط السياسي. قد يحسن استلهام تكنيكات عالمية إلى السياقات المحليّة فعالية الحركات المستقبلية.
قد تكون طالعات قد اختفت من الميادين، لكن تأثيرها يبقى فصلا هامّا في تاريخ النسوية الفلسطينيّ. سواء كصرخة تحذير أو نموذج مُلهِم، وهو يعرض دروسا جوهرية حول التحديات وإمكانيات المقاومة النسوية تحت الاحتلال. ورغم أن حضورها الفعلي لربما بهت، فإن تأثيرها يواصل تشكيل الخطاب والنشاط النسوي، ويشكل تراثا يُعتاش عليه في الحيز والمبادرات الأخرى.
المراجع:
- “شلهوب كيفوركيان، نادرة . (2019). النوع، القومية، والحركات الاجتماعية في فلسطين. مطبعة جامعة كاليفورنيا.
- “صايغ، روزماري . (2021). سياسات النسوية الجنسين الفلسطينيّة: تحليل مقارن. المراجعة النسوية، 127 (1)، 21-40.
- “رزاق، شيرين هـ . . (2020). الاقتصاد السياسي للنوع والنضال الفلسطيني من أجل التحرير. الجنس والتنمية، 28 (2)، 229-244.