Search
Close this search box.

الشارع ليس لك: قمع الجسد والتجمّع في مصر

من بعد يوليو عام 2013، أي من بعد أن تصدّر عبد الفتاح السيسي المشهد السياسي في مصر، كقائد للانقلاب العسكري، ومن ثم كرئيس للجمهورية بدءًا من يونيو 2014 حتى الآن، والتي خلفت، أي سُلطوية السيسي، انتهاكات لحقوق الإنسان على مستويات عدّة، أبرزها حرية الرأي والتعبير، عبر التجمع السلمي للاحتجاج. من خلال القمع وتمثلاته، استطاع النظام القضاء على أي تجمعات سلمية للاحتجاج أو المطالبة بأي إصلاحات، بل امتدت شمولية السُلطوية إلى ذوات وأجساد المصريين، لتخلق رقابة ذاتية ودقيقة منهم على ذواتهم، ألسنتهم وأجسادهم، حديثهم وتمَظهرهم، فرادى وجماعات.

كيف كانت بداية سيطرة السُلطوية على الفضاء العام؟ وما هي تمثلات الرقابة التي فرضها المواطنون على ذواتهم؟ وكيف نُفيت أجساد المواطنين من مناطق وفضاءات محددة لأهداف سُلطوية؟

  • الصراع بين السلطة والمجتمع على الفضاء العام 

بعد أن انتصرت ثورة يناير، في مطلبها الأساسي، بإسقاط نظام مبارك، أدركت الجماهير المصرية أن لديها الحق في التجمع السلمي، ليس حقًا في التعبير والاحتجاج على سياسات السُلطة في الفضاء العام فحسب، بل إنها من خلال مواطنتها، وسماع صوتها وتحقيق مطالبها، هي تمتلك الفضاء العام، ومن ثم شوهدت ممارسات عدة تدل على هذا الامتلاك. كانت أبرز تلك الممارسات، التواجد الدائم في الشوارع، لتنظيفِها وتجميلها، عبر الرسم على الجدران، التجمعات في الميادين العامة للغناء وممارسة كافة الفنون الأدائية، فضلا عن تأسيس مبادرات عدة كان عملها اليومي في الشوارع وسط المصريين، مبادرات توعوية وثقافية وفنية. أيضا، ما أزاد هذا الإدراك، وهى بمثابة لحظة فاصلة في تاريخ المُجتمع المصري، حين اختفت الشرطة المصرية من الشوارع والمؤسسات مساء يوم 28 يناير 2011، جمعة الغضب، ومن ثم في ذات اللحظة تشكّلت اللجان الشعبية لحماية المِلكيات الخاصة والعامة من أي اعتداءات، هذه كانت لحظة رسمية لامتلاك المواطنين بلدهم، فضائهم العام والخاص.

 

  • عنف السلطة والسيطرة على الفضاء العام

لم يهنئ المصريون بامتلاكهم الفضاء العام كثيرا، إذ جاء الانقلاب العسكري بقيادة رئيس الجمهورية الحالي عبد الفتاح السيسي، ومن خلال تفعيل جهازه الأمني وآليات القمع، بدأت تختفي التجمعات السلمية المعارضة لسياسات السلطة. لم تكن ممارسات سُلطوية السيسي القمعية بشكل عشوائي، أو غير ممنهجة، إذ كانت بداية هذه السياسات بأكبر عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث، يوم فض اعتصام ميدان رابعة العدوية، إذ كان المعتصمون فيه يطالبون بإسقاط الانقلاب العسكري وعودة الرئيس المعزول محمد مرسي، إلى أن جاء يوم 18 أغسطس عام 2013، وقامت قوات الأمن المصري بفض الاعتصام من خلال القتل المباشر، وقد قُتل في ساعات قليلة أكثر من 600 شخص حسب بيانات وزارة الصحة المصرية (ربما يكون العدد أكثر حسب توثيق بعض المؤسسات الحقوقية). كانت عملية القتل المباشر، ليست بهدف فض الاعتصام وإنهاء الاحتجاجات فحسب، بل شكّلت احتياج النظام الجديد، للحظة عنف قوية ومشهودة أمام المرئى العام، أي المصريين جميعًا، إذ كان فض الاعتصام في وضح النهار، وتنقله القنوات التلفزيونية، بهذه اللحظة، تأسست شرعية النظام الحالي، أو ما يعرف بـ”احتكار” الدولة للعنف وأشكاله.

من بعد ذلك، لم تسمح سُلطوية السيسي بأي تجمعات سلمية، وبشكل “مُشرّع”، إذ في نوفمبر من عام 2013، صدَّق الرئيس المؤقت حينذاك عدلي منصور على قانون “تنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية”، والذي يعرف بقانون التظاهر، والذي يمنح، حسب منظمة العفو الدولية، وزارة الداخلية سلطات واسعة للتعامل مع الاحتجاجات، ويضع شروطاً فضفاضة يمكن أن يُتهم المتظاهرون بناءًا عليها بانتهاك القانون. من بعد هذا القانون، دخل السجن آلاف من المواطنين المصريين إثر تهم تتعلق بمخالفة قانون التظاهر، وكانت تلك الفترة مليئة للمطالبة بالعدالة للضحايا الذين سقطوا في فض اعتصامي رابعة والنهضة واحتجاجات اُخرى، كما بإسقاط الانقلاب العسكري، فضلا عن الاحتجاجات ذاتها الخاصة بقانون التظاهر.

 

  • تمثلات الرقابة الذاتية للمواطنين

ازداد الحديث عن السجن، وكل ما يدور حوله، في حياة المصريين من بعد صعود سُلطوية السيسي إلى الحكم، وأدرك المجتمع المصري بكافة فئاته ودرجاته الطبقية أن السجن ليس ببعيد عنهم، بل قريب، وقريب جدًا حين تتحدث عن السياسة أو تعارض السُلطة. والسجن في مصر، تاريخيا، يتمتّع بسمعة شديدة السوء من حيث مرئيات الحياة بداخله، التي هي تعذيبية وإذلاليّة بامتياز، وقد رصدت عشرات المنظمات الحقوقية المصرية والدولية الانتهاكات الجسيمة التي تحدث بحق السجناء، ما أدى إلى وفيات كثير منهم، بسبب الإهمال الطبي، فضلا عن مئات محاولات الانتحار طيلة السنوات الماضية.

حضور السجن في الذاكرة، من الواقع، كعقاب أبديّ، فضلا عن كثافة الوجود الأمني في الفضاءات العامة، الميادين، الشوارع، المقاهي، الحدائق، محطات المترو والقطارات، وغير ذلك، جعل المواطنون يمارسون رقابة ذاتية على أنفسهم، ألسنتهم وأجسادهم، كيفية تحدثهم وتَمظهرهم، محتويات هواتفهم، أعدادهم حتى في جلساتهم العاديّة. مثلا، يتمظهر الجسد بشكل لا يجرّه نحو “الاشتباه” به من رجال الأمن، إذ يشكّ رجال الأمن في الشباب الذين يحملون حقائب على ظهورهم، وشعرهم طويل، ويلبسون أي “إكسسوارات” عليها أي من الشعارات أو الإعلام الخاصة بالقضايا السياسية أو التحررية، مثل علم فلسطين، أو علم سوريا “الثورة” أو حتى علم مصر، أو أي تيشيرت مرسوم أو مَكتوب عليه عبارات أو أشكال تدل على الثورية أو أي من مفاهيم الكرامة والحرية، مثل حدث مع الشاب محمود حسين المعروف بـ”معتقل التيشيرت”، حيث اعتقلته قوات الأمن، وسجن لسنوات، بسبب ارتدائه تي شيرت مكتوب عليه عبارة “وطن بلا تعذيب”.

هذه الرقابة الذاتية تمثلت في الأحاديث، فتكون الأصوات بين الأصدقاء على المَقهي أو في عربة الأجرة أو المترو، بينما يحدثون بعضهم، منخفض تماما، ولاسيما إن كان الحديث يخص أي نقدٍ لسياسات السلطة في مصر ورئيسها، كما يترك كثير من الشباب هواتفهم الذكية في البيت عند النزول، تجنبا لتفتيشها أثناء سيرهم في الشوارع من رجال الأمن، كذلك يحاولون أن يكون تَمظهرهم من حيث الملبس وشكل شعرِهم ولحاهم لا تثير الاشتباه بهم لدى رجال الأمن المتواجدين في الشوارع، وخاصة الميادين الكبرى. ميدان التحرير وشوارع وسط البلد بالقاهرة أصبحت مناطق محظور التجول فيها لأي مواطنين لهم سوابق أو آراء سياسية، بسبب احتمالية توقيفهم وتعرضهم للتحقيق والاعتقال، من هنا، خرجت هذه الأماكن، وهى أماكن عامة، من المفترض أن المواطنين لهم حق التواجد فيها، لكنهم لا يستطيعون زياراتها أو حتى العبور من خلالها.

أيضا، ضمن هذه التمثلات، التجمعات بين الشباب سواء في الشوارع أو المقاهي أو حتى عند ركوب الحافلات، مثلا، أي تجمع كبير، أي أكثر من خمسة أشخاص على مقهى واحد، أصبح شيئا يثير اشتباه رجال الأمن، والمقاهي في مصر، في فضاء دائم الاشتباه والتفتيش من رجال السُلطة، لذا، يفضل الأصدقاء أن يجتمعوا بأعداد أقل من خمس أشخاص. أيضا، عند مرور عربات الأجرة أو المترو من على حاجز أمني (كمين)، ينفصل الأصدقاء عن بعضهم، حتى إن تم الاشتباه أو القبض على واحد منهم، لا يتضرر الآخرون معه، هكذا في مصر، يجتنب المواطنون الاعتقال بالجلوس والمشي والعيش بشكل منفرد تماما. هنا، كأن السُلطوية بمثابة جسد كبير تخاف من أي تجمع يكوّن جسدا كبيرا آخر، يستطيع معارضتها، فبدأت بتصفية وفض الاعتصامات والمظاهرات، بما أنها تجمعات كبيرة جدا تستطيع قلق وزعزعة استقرار السلطوية، ومن ثم راقبت واشتبهت وأرهبتْ أي تجمعات أُخرى، في المقاهي والشوارع ومحافل النقل وغير ذلك من أماكن يتجمع فيها المواطنون بشكل يومي، اجتماعي، عادي، ما جعلتهم يعيشون حياة فردية، مقهورة وخاضعة، تخاف وتجتنب أي فضاء تتواجد فيه السلطة ورجالها.

 

  • نفي الجسد عن الفضاء العام.

لم تكتفِ السُلطوية بحرمان أجساد المصريين من وجودهم بشكل حر وطبيعي في الفضاءات العامة فحسب، بل مارست ما يُعرف بالنفي، سواء أكان نفيا جزئيا أو كليا لأجساد محددة لا تريد السُلطوية وجودها. في ما يخص النفي الجزئي، و هو يحدث من خلال تمشيط مناطق معينة في أوقات محددة، بمعنى، أنه عند مرور المواكب والزيارات الرسمية للمسؤولين في مصر، ومن بلاد أُخرى، يجب على المنطقة التي ستشهد مررور الموكب أو الزيارة أن تكون هي والأجساد التي تتواجد فيها مُلمَّعة. مثلا، في زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى منطقة خان الخليلي بالقاهرة، من الصور والفيديوهات التي بثت، وُجِد أن المنطقة كانت جاهزة لزيارة الرئيسين، المصري والفرنسي سويًا، فعلقت بعض الصور للرئيس ماكرون على جدران المبان، فضلا عن التحيات المبالغ فيها لهما من الناس، ما دلَّ على ترتيب المنطقة قبل وصولهما، فضلا عن العقلية الأمنية للدولة، والتي تستدعي تمشيطًا أمنيًا حقيقًا للمنطقة وكل من فيها، حرصا على منع أي عمل تحريضي أيا كان نوعه يُفسد أو يشوّه مراسم الزيارة.

 

  • المواطنون كسجناء

هذا التمشيط الجزئي يشبه في رمزيته، وبعض من أشكاله، ما يحدث في السجون المصرية، إذ تعمل السلطة السجنية ليوم واحد أو حتى لساعات محددة، على تحسين جودة السجن وحياة السجناء داخله، عند زيارات وفود حقوق الإنسان سواء كانت محلية أو دولية، فتصبح العنابر والزنازين نظيفة مرتبة، وتفتح الأبواب للسجناء بهدف ممارسة الرياضة، ويطبخ الطعام بجودة جيدة، على عكس ما يعيشه اسلجناء بشكل دائم. هذا يتشابه مع ما تفعله السلطة السياسية خارج السجن مع المناطق العشوائية أو الأحساء الفقيرة، إذ هي تفضّل تجاهلها، لكن إن مرَّت بها أو زارتها، تضطر إلى تجميلها وتلميعها بمن فيها، بعد تطويقها أمنيًّا حتى لا يخرج إليها أي أجساد غير مرحب بها، منبوذة، بعدسة السُلطة، حتى لا يشوّهوا، بنظرها، الفضاء البصري العام المجمّل من أجل الزيارات والوفود الدبلوماسية.

 

  • النفي بحجّة التطوير.

أما النفي الكلي، هو ما حدث تحت اسم “التطوير العمراني والقضاء على العشوائيات”،  فلا تتجه الدولة إلى أي منطقة بهدف إعمارها، إلا إذا وجدت من ذلك فائدة أكبر كعرضها للاستثمار أجنبي، أو تطوير السياحة حولها؛ مثل جزيرة الوراق بالجيزة، حيث عرضت الحكومة على الأهالي ثمنا بخسا مقابل تخلّيهم عن أراضيهم، ومنذ سنوات وإلى الآن، دخل أهالي الجزيرة في صراع مع السلطة من أجل بقائهم وعدم التهجير، إلى فضاءات عمرانية جديدة، مثل مشروع الأسمرات والمحروسة بالقاهرة، كما مع جزيرة الوراق مناطق أُخرى مثل مثلث ماسبيرو وبولاق أبو العلا ومنشية ناصر والدويقة وروض الفرج وغيرهم، بداعي أن هذه المناطق غير آمنة لساكنيها.

غير أنه واقعيا، ليست مسألة الأمان السبب الحقيقي للسلطة، إذ هي تنظر، دائما، لسكان هذه المناطق بعين قلقة، ومُراقِبة، لما تنتهجه من سياسات اقتصادية تُفقرهم وتُصعب عليهم معيشتهم، عاما بعد عام. كما أن تلك المناطق هي -الأكثر فقرا- في التاريخ المصري، بل وكانت مشتعلة بالغضب أيام ثورة يناير 2011، حيث شكّل مثلث ماسبيرو أحد دروع وحماة ثوار ميدان التحرير، فضلا عن براعة سكان تلك الأحياء في مقاومة السياسات البوليسية لوأد أي حراك احتجاجيّ، كما تنقل الذاكرة الاحتجاجية خلال الـ 18 يوما من ثورة يناير.

تعمل السلطة على تفكيك ونقل، أي عزل، هذه الأجساد المُعرّضة للانفجار في وجهها في أي وقت، بل من خلال نقلهم إلى عمرانيات بعيدة، في أزمنة وأمكنة قد لا يستطيعون التعايش معها، لما سيواجهونه من صعوبات مالية، ومادية، في التنقل من سكنهم الجديد إلى عملهم القديم، بالإضافة إلى تفكيك الروابط والعلاقات التي شُكّلت بينهم منذ عشرات السنين، أي أن السلطة فككت “سُلطتهم الرمزية”، كما يعرّفها أستاذ علم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وجعلتهم سجناء في الهواء، مراقبين دائما داخل أسوار تلك العمرانيات الأمنية، كي يضمنون نفي أي اجساد، ربما قد تجتمع للاحتجاج ضد سياستها.

بعد كل هذه الممارسات والتمثلات التي يتعايش ضمن مرئياتها المصريون، وبدلا من امتلاك حقهم في الفضاء العام، تتملّكهم مشاعر الاغتراب والاستلاب، بل وتترسَخ فيهم مشاعر الكراهية والخضوع للأرض والسُلطة. إذ وجود المكان، الفضاء العام، بكل ما يشمل، يمثل حاضنة آمنة للمواطنين في مصر، وكلما اُستلب منهم هذا الفضاء، زاد اغترابهم عنه، وعن وجودهم، إذ هم وفي ظل تعرضهم اليومي لكل سياسات الإخضاع التوحشية من قمع ومراقبة وخوف وإفقار ونفي لن يجدوا أي ملاذ آمن أو شعور حقيقي بالانتماء لهذه لوطنهم، إذ السُلطة تقمعهم والأرض ليست أرضهم، بل يُحظروا ويُطردوا منها، فماذا تبقى لديهم، غير أنهم يتمنوا أن يهاجروا خارج الوطن أو يموتوا، ربما انتحارا، هربا من حياة لا تعطيهم أو تُشعرهم بأي قيمة حقيقة لوجودهم. 

Facebook
Twitter
Email
Print

Facebook

Twitter