Search
Close this search box.

كيف يمكن للمجتمع المدني في شمال إفريقيا العمل في ظل أنظمة سلطوية؟

يواجه المجتمع المدني في دول شمال إفريقيا تحديات ومخاطر في ظل أنظمة سلطوية أحيانا. إذ تفرض بعض دول المنطقة منذ سنوات عراقيل متزايدة على حرية العمل المدني سواء بوضع قيود تشريعية على التمويل والنشاط أو ممارسة تضييقات أمنية على الناشطين المدنيين عامة، والمدافعين عن حقوق الإنسان خاصة. وهو ما أشارت إليه تقارير نشرت حديثا لمنظمات محلية ودولية، والتي سجلت ارتفاعا في عدد الإيقافات التعسفية والإجراءات غير القانونية في حق ناشطين مدنيين في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى رصدها مؤشرات عديدة لتقلص مساحة العمل المدني، وبالتالي تقلص الضمانات الأساسية للحريات وحقوق الإنسان في دول مثل مصر وتونس والمغرب.

في الوقت الذي كان المجتمع المدني يواجه فيه هذه التحديات، ساعد تنوع ووفرة الموارد المالية التي يقدمها المانحون الدوليون في السنوات الأخيرة، ومن أهمهم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، في ضمان شيء من الاستمرارية والاستقلالية في العمل المدني في دول شمال إفريقيا. ولذلك أثار قرار الحكومة الأمريكية وقف المساعدات الدولية الذي دخل حيز التنفيذ منذ شهر جانفي الماضي مخاوف منظمات المجتمع المدني، خاصة تلك التي تعمل منها في ظل أنظمة حكم سلطوية تحد من التمويل المحلي. وجاء وقف المساعدات بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن عدد من القرارات التنفيذية، من بينها الوقف الفوري للمساعدات الدولية بقيمة مئة مليون دولار يمثل نصيب دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منها أكثر من الثلث.

 

المجتمع المدني من الانتقال الديمقراطي إلى الأنظمة السلطوية

كان للمجتمع المدني دور أساسي خلال التحركات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها قبل أكثر من عشر سنوات دول مثل تونس ومصر والمغرب. ولم يقتصر دوره على تهيئة الظروف المناسبة لهذه التحركات التي دفعت نحو إصلاحات شاملة في بعض المجالات، بل تعداه أحيانا إلى دور إصلاحي تمثل في تصحيح المسار السياسي والاجتماعي خلال فترات الانتقال الديمقراطي بما يضمن مساحة مهمة من الحريات الأساسية وعلى رأسها حرية العمل المدني. وقد ساعد في ذلك التطور الملحوظ الذي عرفه المجتمع المدني منذ سنة 2011، ليس فقط من حيث العدد لكن أيضا من حيث المرونة والقدرة على الاستجابة للمشاكل المجتمعية. ورغم غياب أرقام دقيقة إلا أن التقارير تشير إلى ارتفاع كبير في عدد المنظمات والجمعيات الناشطة في شمال إفريقيا خلال تلك الفترة. ومع زيادة عددها، تحولت هذه المنظمات تدريجيا من آليات مدنية تستخدم غالبا في خدمة الأنظمة السياسية القائمة إلى محركات مجتمعية للدفاع عن الضمانات الأساسية للحريات وحقوق الإنسان، مستفيدة في ذلك من الطفرة في العدد والأداء.

تلت الطفرة التي عرفها المجتمع المدني قبل عشر سنوات في دول شمال إفريقيا، بروز تجارب نموذجية ساهم خلالها ناشطون ومنظمات مدنية في الحفاظ على السلم الإجتماعي والتداول السلمي للسلطة في ظل أزمات سياسية متتالية بين مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة وأحيانا بين مؤسسات الدولة ذاتها. وهو تماما ما حدث في تونس سنة 2014، عندما واجهت البلاد أزمة حادة هددت بإفشال مسارها الديمقراطي آنذاك بسبب التجاذبات الأيديولوجية والسياسية بين الأحزاب الممثلة في أطراف السلطة في البرلمان ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. وقد انتهت هذه الأزمة بتسوية سياسية بعد نجاح مبادرة الحوار الوطني التي أطلقها أربع منظمات مدنية، ممثلة في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين. وقد ساهمت هذه المبادرة في جمع الفرقاء السياسيين والاتفاق على تسوية سلمية للأزمة، توجت بحصول المنظمات الراعية للحوار الوطني على جائزة نوبل للسلام في سنة 2015.

أما في مصر، فقد نجحت حركة “لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين” التي تكونت من محامين وناشطين مدنيين، في توثيق عدد من المحاكمات العسكرية للمدنيين، وضغطت على السلطات المصرية للحد من هذه المحاكمات. وقد كان للتحالفات التي أسستها الحركة دور رئيسي في دعم الضحايا، من خلال تعاونها مع المنظمات الحقوقية المصرية للطعن فيها أمام المحاكم المصرية والدولية. ورغم أن المكاسب التي حققتها الحركة ظلت محدودة بسبب التضيقات الأمنية التي تعرضت لها، إلا أنها نجحت في الضغط على السلطة لإدخال تعديلات قانونية، من بينها ما تضمنه الدستور المصري لعام 2014، وتحديدا في المادة 204 التي حدث جزئيا من المحاكمات العسكرية للمدنيين. أما في المغرب، فقد ساهم الحراك الاجتماعي الذي قادته الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب سنة 2017، في الضغط على الحكومة والبرلمان لتعديل مدونة الأسرة بما يضمن الحقوق الأساسية للمرأة، خاصة فيم يتعلق بقانون الميراث. وهو ما تجسد من خلال التعديلات القانونية المقترحة التي من المتوقع أن يصادق عليها البرلمان المغربي خلال الفترة القادمة.

 

قيود تشريعية و تضييقات أمنية

رغم أن المجتمع المدني راكم خلال فترات الانتقال الديمقراطي تجارب وخبرات عديدة، إلا أن طبيعة التحديات والمخاطر التي يواجهها اليوم في ظل أنظمة الحكم السلطوية تبقى مختلفة تماما. حيث يتعرض الناشطون إلى خطر الملاحقات الأمنية والمحاكمات غير القانونية بينما توقفت بعض منظمات المجتمع المدني عن العمل بسبب تقييد نشاطها والحد من وصولها إلى التمويل المحلي والأجنبي. وهو ما جعل منطقة شمال إفريقيا واحدة من أكثر المناطق إعاقة لعمل المجتمع المدني في السنوات الأخيرة، حيث يصنف مؤشر CIVICUS لحرية العمل المدني، الذي يعتمد في تقييمه على معطيات وبيانات جمعها عن طريق أكثر من 20 من منظمة محلية وناشطين حقوقيين، مجال العمل المدني في مصر بالمغلق، بينما يصنف في تونس وليبيا على أنه مقموع، أما في المغرب فهو مقيد.

في تونس، على سبيل المثال، تقدم أزمة المهاجرين نموذجا حديثا لطبيعة التحديات القانونية التي يمكن أن يواجهها المجتمع المدني. إذ انتهجت السلطات التونسية أسلوبا قمعيا في التعامل مع أزمة المهاجرين في سنة 2023، ولم تستثن في ذلك الناشطين المدنيين. وكانت بداية الأزمة عندما اتهم الرئيس التونسي قيس سعيد المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء بالمشاركة في “مخطط إجرامي” لتغيير التركيبة الديمغرافية للمجتمع. ووسط موجة واسعة من التمييز والعنف التي تلت هذه التصريحات، عملت عديد المنظمات المدنية على توثيق شهادات الضحايا وأدانت الخطاب الرسمي المحرض عليهم، بينما سعت منظمات أخرى إلى توفير الدعم القانوني للمهاجرين ضحايا العنف والتمييز. إلا أن الدولة واجهت الناشطين بحملة من الاعتقالات، ومن بينهم رئيسة جمعية “منامتي” سعدية مصباح ورمضان بن عمر المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الذين واجها تهما تتعلق بنشر أخبار كاذبة ومحاولة زعزعة الأمن الوطني وفقا لقانون مكافحة الإرهاب والمرسوم عدد 54 لمكافحة الأخبار الكاذبة.

لقد أدى تكييف المرسوم عدد 54 وقوانين مكافحة الإرهاب في محاكمة الناشطين والحقوقيين إلى تقلص مساحة العمل المدني والسياسي تدريجيا في تونس. واستند الرئيس التونسي قيس سعيد إلى أحكام الدستور الجديد (2022)، لإقرار المرسوم 54 ومراسيم أخرى مماثلة دون الرجوع إلى البرلمان. بينما بررت الحكومة التونسية آنذاك هذا المرسوم بالحاجة لمكافحة حملات التضليل والتشهير التي انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي. إلا أن تزايد عدد القضايا المسجلة ضد صحفيين ومدونين، ومحاكمتهم وفقا لهذا المرسوم الذي تضمن أحكاما قاسية تصل أحيانا إلى السجن لمدة خمس سنوات، أثار مخاوف منظمات حقوقية، من بينها منظمة العفو الدولي وهيومن رايتس ووتش، التي دعت إلى تعديله أو إلغائه. وقد انتقدت منظمات أخرى هذا المرسوم منذ صدوره في سنة 2022، بسبب غياب تعريف دقيق للأخبار الكاذبة، بالإضافة إلى غياب أي نقاش برلماني أو مجتمعي قبل إقراره.

أما في مصر، فيحد القانون عدد 149 لسنة 2019 من حرية التمويل والنشاط لمنظمات المجتمع المدني بصفة كبيرة، حيث يشترط الحصول على الموافقة الرسمية المسبقة لكل جمعيات المجتمع المدني. ويتضمن عقوبات قاسية تصل إلى خمس سنوات سجنا في حال عدم الامتثال لهذه القوانين. وفي سنة 2020، تعرضت مقرات “المبادرة المصرية للحقوق الفردية” في مصر لحملة من المداهمات والاعتقالات في إطار تهم تتعلق بهذا القانون. لكن الوضع لم يقتصر على وضع قوانين جديدة للتضييق على حرية العمل المدني، بل امتد ليشمل تكييف قوانين أخرى في غير سياقها، من بينها قانون عدد 94 لمكافحة الإرهاب في مصر الذي تضمن أحكاما قاسية تصل للإعدام. ووقع إقرار هذا القانون بعد تعرض البلاد لسلسلة من الهجمات الإرهابية سنة 2015. ورغم أنّ القانون عدد 94 سُنَّ في البداية لمواجهة خطر الإرهاب، وتعرض لانتقادات واسعة من منظمات حقوقية، إلا أنّ ذلك لم يمنع الدولة المصرية من تكييفه في قمع الأصوات المعارضة والناشطين المدنيين، حيث تعرض عدد منهم للاعتقال والمحاكمة سنة 2023، بتهم تتعلق بمكافحة الإرهاب بعد تنظيم احتجاجات على ارتفاع الأسعار في البلاد.

تواجه منظمات المجتمع المدني في المغرب أيضا تحديات مماثلة في التشريعات والقوانين التي تنظم العمل المدني. إذ ينظم قانون الجمعيات لسنة 2011 الإطار القانوني لعمل الجمعيات غير الحكومية، ويقيد حرية تأسيس الجمعيات وتمويلها بإجراءات إدارية وقانونية معقدة، مما يؤثر على قدرة هذه الجميعات على العمل باستقلالية وتوفير التمويلات اللازمة لنشاطها، حيث يتعين عليها الحصول على الموافقة المسبقة من الحكومة عند طلب تمويل أجنبي من أحد المانحين الدوليين، بينما لا توفر الدولة للجمعيات والمنظمات المحلية تمويلات كافية لنشاطها. وفي سنة 2015، جمدت الحكومة المغربية أصول عدد من الجمعيات بسبب حصولها على تمويل أجنبي دون الموافقة المسبقة. عموما، رغم كل هذه القيود التي تتعرض لها جمعيات المجتمع المدني في المغرب وتونس ومصر، فقد نجحت بعض المنظمات من تطوير استراتيجيات مبتكرة للعمل والتمويل في ظل الأنظمة السلطوية.

 

استراتيجيات مبتكرة للنشاط والتمويل

اعتمدت منظمات المجتمع المدني في شمال إفريقيا تكتيكات مبتكرة في مواجهة الممارسات التضييقية للسلطة. ورغم أن بعض المنظمات اضطرت إلى تعديل رؤيتها أو تعليق نشاطها بسبب القيود الأمنية والقانونية، إلا أن هناك أمثلة أخرى كثيرة لمنظمات نجحت في الاستجابة للتحديات والمخاطر التي يفرضها العمل ضمن الأنظمة السلطوية دون الحاجة لتعديل رؤيتها. ولعل من ابرز التكتيكات التي تبنتها هذه المنظمات: تطوير آليات أكثر فاعلية للتواصل، وبناء تحالفات محلية ودولية قوية، والبحث عن بدائل تنظيمية للعمل الجمعياتي.

بدائل تنظيمية للعمل الجمعياتي: اتخذ العمل المدني في دول شمال إفريقيا أبعادا جديدة في مواجهة التعقيدات القانونية التي يفرضها العمل في ظل أنظمة سلطوية. إذ أدت القوانين والإجراءات الإضافية التي تبنتها مصر والمغرب في السنوات الأخيرة على سبيل المثال إلى تقييد حرية العمل المدني من خلال تمديد آجال النظر في مطالب تأسيس الجمعيات وإصدار التراخيص لتصل أحيانا إلى أكثر من ستة أشهر. وهو ما دفع بعضها للبحث عن بدائل أخرى أقل تعقيدا للعمل المدني، فظهرت عديد المنظمات التي تتخذ من الشركات القانونية ومراكز البحوث أو حتى الشركات التجارية واجهة لها بينما اختارت بعض المنظمات الأخرى نقل نشاطها إلى دول مجاورة، ما أتاح لها مواصلة عملها دون تعرض منخرطيها لخطر التضيقات الأمنية. وهو ما قام به مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان على سبيل المثال عندما نقل مقره الرئيسي من مصر إلى تونس في سنة 2014، بسبب التضيقات الأمنية التي تعرض لها من السلطات المصرية.

في المقابل، اختارت بعض الحركات الاجتماعية الأخرى المحافظة على شكلها غير النظامي، واكتفت بدورها المجتمعي باعتبارها حركة احتجاجية، مثل حملة “منيش مسامح” التي تشكلت في تونس سنة 2015 من طرف مجموعة من الأساتذة الجامعيين والناشطين المدنيين والمحامين. وكانت الحملة بمثابة رد فعل احتجاجي على قانون المصالحة الاقتصادية والمالية. وقد دعت حملة “منيش مسامح” البرلمان إلى عدم المصادقة على القانون الذين كان ينظر إليه ناشطون كثيرون آنذاك على أنه محاولة لتبييض الفساد. ورغم أن الحملة لم تحقق كل أهدافها إلا أنها اكتسبت زخما إعلاميا وأكاديميا ألهم ناشطين آخرين في المنطقة.

 

وسائل تواصل أكثر أمنا وفاعلية:

في الوقت الذي صار فيه العمل الميداني أكثر تعقيدا وخطورة، مثلت وسائل التواصل الاجتماعي بدائل أخرى للعمل المدني، ليست فقط أكثر أمنا، بل أحيانا أكثر فاعلية أيضا. ففي ظل التضييقات التي يتعرض لها الناشطون، توفر تطبيقات التواصل المشفرة بدائل للتواصل الآمن فيما بينهم أو للوصول إلى الجمهور المستهدف. وقد ساعدت تطبيقات، مثل تليغرام وسيغنل، في تيسير عملية التواصل دون التعرض للرقابة الحكومية، بينما عملت منظمات أخرى على تدريب منخرطيها على الممارسات الفضلى للتواصل الآمن أثناء العمل الميداني، مثل منظمة مدى تونس. ورغم نجاح بعض المنظمات في المحافظة على حضورها الميداني، إلا أن منظمات أخرى فضلت الانتقال كليا إلى العمل الافتراضي، ما وفر لها هامشا أكبر في الأنشطة الدعوية وحملات المناصرة. وهو ما حدث مع حملة “الحرية لعلي أنوزلة” في المغرب. ففي سنة 2013، أطلق مجموعة من الناشطين حملة الكترونية نجحت في الوصول إلى عدد كبير من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، واكتسبت زخما محليا ودوليا، انطلقت معه دعوات عديدة لإطلاق سراح الصحفي علي أنوزلة الذي أعتقل على خلفية مقال انتقد فيه العائلة الملكية.

 

تحالفات محلية ودولية:

إن القيود التي تضعها الأنظمة على التمويل، سواء المحلي أو الأجنبي منه، دفع عديد المنظمات للبحث عن بدائل أكثر استمرارية وأقل تعقيدا في تمويل نشاطها. وبسبب ندرة الموارد المالية المحلية وتعقيد إجراءات الحصول عليها غالبا، وأحيانا أخرى بسبب الرقابة السياسية على هذه التمويلات، تعتمد الكثير من المنظمات المحلية في تونس ومصر والمغرب على المانحين الدوليين لتوفير التمويل الضروري لنشاطها. ورغم أهمية هذه الموارد إلا أن الاعتماد الكلي على المانحين الدوليين لوحدهم يحد من مرونة واستمرارية هذه المنظمات عند تغير أولويات المانحين. وهو ما أدركته منظمات مدنية مثل البوصلة وأنا يقظ في تونس، التي نجحت في إرساء نماذج أكثر تنوعا، حيث يعتمد كلاهما منذ سنوات على شراكات حصرية مع منظمات دولية، من بينها منظمة الشفافية الدولية، التي تقدم الحماية القانونية والدعم التقني لشركائها، وهو ما يجعل هذه المنظمات المحلية أكثر حصانة وقدرة على الصمود في مواجهة التضييقات الأمنية.

 

الفن والثقافة في مواجهة القمع:

مع انسداد أفق العمل المدني، يمثل الفن والثقافة بدائل أخرى يمكن توظيفها في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وإيصال رسائل نقدية في مواجهة السلطة. على سبيل المثال، انتشرت أغاني الراب التي تنتقد الفساد والقمع في المغرب في السنوات الأخيرة، من بينها مغني الراب “الحاقد” الذي ساهمت أغانيه في تعرية الواقع ونقده، خاصة أغنية “كلاب الدولة” التي لاقت رواجا كبيرا بين الشباب المغربي. أما في تونس، فقد ساهمت الجدرايات والجرافيتي، خاصة في شوارع العاصمة تونس التي تمثل مركز السلطة في الدولة، في نقد الممارسات البوليسية والتضييق على حرية التعبير. ورغم أن أغلب رسومات الجرافيتي اتخذت طابعا تلقائيا، إلا أن بعضها الآخر اتخذ شكل مجموعات شبابية أكثر تنظيما، من بينها مجموعة “زواولة” التي رسمت عديد الشعارات المنددة بالفساد والاستبداد لسنوات في شوارع تونس ومدن أخرى.

في الختام، إن هناك دروس كثيرة متشابهة يمكن استخلاصها من التجارب في تونس والمغرب ومصر، إلا أن أهم عنصر مشترك بين هذه التجارب هو الدور الإيجابي الذي لعبه المجتمع المدني في الحفاظ على الضمانات الأساسية للحريات وحقوق الإنسان ليس فقط خلال فترات الانتقال الديمقراطي بل أيضا خلال فترات التضييق والقمع، التي ليس من المستبعد أن تتواصل في غياب أي مؤشرات للمصالحة بين مكونات الدولة والمجتمع في المستقبل القريب. إلا أن غياب هذه المؤشرات، لا ينفي حقيقة أن سياقات العمل المدني تبقى غير ثابتة تماما، فهي متغيرة بتغير الظروف السياسية والاجتماعية، وبالتالي فإن استجابة مكونات المجتمع المدني لهذه السياقات وما تفرضه من مخاطر وتحديات يجب أن تكون استشرافية بدورها، سواء اتخذت أبعادا رقمية تماما، مثل حملة “الحرية لعلي أنزولة” أو تشكلت ضمن مقاربات غير نظامية للعمل المدني، مثل حملة منيش مسامح. 

Facebook
Twitter
Email
Print

Facebook

Twitter