تحليل قانوني وسياسي لجدل التشريع الأكثر إثارة للاحتراز. أي مستقبل لحرية التعبير في تونس؟
ماذا لو انقلب القانون من حام للحقوق إلى سيف مسلط على أعناق الأفكار؟ تخيل.ي أن تجرم منتجات العقل وهمسات الضمير، أن تحاكم النوايا قبل الأفعال، وأن تقيد الألسنة خوفا من سطوة نصوص قانونية تحول التعبير عن الرأي إلى جريمة يعاقب عليها بالسجن.
الفصل الأول :” يعتبر كل تفكير أو تعبير يناقض التوجهات العامة الرسمية للسلطة أو يشكك في السياسات العمومية للحكومة أو يطرح آراءً غير مرغوب فيها من قبل الموالين للنظام جريمة يعاقب عليها بالسجن.”
هذا الفصل هو من وحي الخيال، لكنه يمت للواقع بكل صلة .. ما يبدو ضربا من الخيال في رواية ديستوبية يجرم فيها التفكير والتعبير، أصبح واقعا ملموسا تحت غطاء المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، الذي اعتقل على أساسه أكثر من 80 مواطن.ة منذ صدوره إلى حدود شهر نوفمبر 2024، من بينهم معارضون.ات سياسيون.ات، وناشطون.ات، ومحامون.ات، وصحفيون.ات، ومدافعون.ات عن حقوق الإنسان، ومستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي .
هذا المرسوم ليس مجرد قانون، بل هو نكوص عن روح الثورة التي هتفت “الشعب يريد إسقاط النظام”، النظام سقط، لكن ثقافة الخوف بقيت، تتناسخ كالفيروس في جسد الدولة تتغذى على ما تبقى من الرصيد النضالي والإيمان بإمكانية التغيير. لكن صمود الكلمة أمام هذا الغول، تؤكد لنا أن أقفال السجون لا تسكت صدى الحروف، بل تحولها إلى رصاصات من نور تطالِب بحرية لا تعرف المستحيل.
تونس على مفترق التاريخ: ثورة تبحث عن خلاصها بين شعارات الديمقراطية وفخ السلطة المطلقة
يعتبر المسار الذي شهدته تونس منذ ثورة 17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011 مسارا حافلا بالتغيرات السياسية والاجتماعية العميقة التي عكست تطلعات التونسيين والتونسيات نحو الحرية٬ الكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية. فقد جسدت الشعارات التي غزت الشوارع آنذاك أفقا جديدا من الأمل ورغبة جامحة في القطع مع الاستبداد وبناء نظام ديمقراطي يكرس الحقوق والحريات، وهو ما تمت ترجمته في دستور 2014، بعد فترة مخاض عسيرة شكلت رحلة فاصلة في تاريخ البلاد افتتحت بإضافة مفهوم الكرامة إلى شعار الجمهورية، إلى جانب الحرية والعدالة والنظام٫ وكان الباب الثاني بعنوان الحقوق والحريات، بمثابة الطير الذي حط على سقف الدستور، يغرد دون خوف من شباك القمع، لكنه رغم ذلك فشل في تنزيل آمال الشارع التونسي على أرض الواقع خاصة في ظل التجاذبات السياسية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما استغله الرئيس المنتخب على قاعدة دستور 2014 ، قيس سعيد، للإعلان عن جملة من الإجراءات والتدابير الاستثنائية التي نزلت كالمطر الحمضي على مؤسسات الدولة وهياكلها وشكلت نقطة تحول حاسمة في المسار الديمقراطي الناشئ.
أفرزت هذه الإجراءات واقعا جديدا، فما بدأ ك “إنقاذ” تحول إلى سرداب مظلم طبعت ملامحه بتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، خاصة بعد إصدار الأمر عدد 117 لسنة 2021، الذي منحه سلطة الحكم بالمراسيم دون رقابة دستورية، إلى جانب تقويض دور المؤسسات الدستورية من خلال حل المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بمجلس معين، وإعفاء عدد من القضاة دون محاكمة، وتعطيل عمل البرلمان الذي تم تجميده ورفع الحصانة عن أعضائه في مرحلة أولى ثم حله نهائيا. ثم بلغ هذا المسار ذروته بصدور دستور جديد في 25 جويلية 2022، والذي رغم تقديمه على أنه تصحيح للمسار، فإنه جاء ليؤسس لنظام سياسي يركز السلطة في يد الجهاز التنفيذي، وهو ما يعد تراجعا عن مكتسبات الثورة.
السياق التشريعي للمرسوم: بين شرعية القانون وشرعنة القمع
على الرغم من محاولات تصدير وتسويق المرسوم الرئاسي عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال في تونس، كأداة تهدف لترسيخ بيئة رقمية آمنة من خلال تحديث الآليات التشريعية الهادفة لمواكبة المخاطر الالكترونية المتنامية، والموازنة بين تعزيز الأمن السيبرني وحماية الحقوق والحريات من خلال سد الثغرات التشريعية في المنظومة القانونية التونسية على غرار قانون المبادلات الالكترونية لسنة 2004 وقانون المعطيات الشخصية لسنة 2016، التي لم تعد كافية لمجابهة التعقيدات المتزايدة للجرائم الالكترونية وتزايد حالات انتهاك الخصوصية والابتزاز الإلكتروني التي تهدد المؤسسات الوطنية والأفراد على حد السواء، أو كذلك للوفاء بالالتزامات الدولية لاسيما بعد المصادقة على اتفاقية بودابست للجرائم الإلكترونية. فقد مثل المرسوم استجابة لسياق سياسي وأمني داخلي طغت عليه أحداث ما بعد 25 جويلية 2021، والتي دعت إلى تعزيز السيطرة على الفضاء الرقمي بحجة مكافحة الأخبار الزائفة وحماية الأمن القومي، وهو ما أثار جدلا واسعا حول شرعيته الدستورية خاصة أن بعض بنوده قد شرعت الأبواب لاستغلالها لتقييد حرية التعبير أو ملاحقة النشطاء في المجال المدني والفاعلين في المجال السياسي. وبذلك، يظل التحدي الأكبر لهذا النص هو تحقيق التوازن بين ضرورة حماية الفضاء الرقمي وضمان عدم انزلاقه إلى أداة للرقابة أو القمع، فأمام ضرورة أن تحمي الدولة بأجهزتها وقوانينها المواطنين.ات من الجرائم المرتبطة بالمجال الرقمي، لا يجب ان يصبح ذلك ذريعة لإخماد الأصوات اعمالا بأن القانون ليس مجرد نصوص، بل هو ضمير العدالة، وفي ظل غياب هذا الضمير، تتحول التشريعات إلى أدوات للقمع والتسلط، ما يشكل نموذجا لأزمة الشرعية في الأنظمة الرئاسوية التي تتستر خلف القضاء والتشريعات لتكريس سلطتها، فالتشريع دون ضمانات ديمقراطية يصبح أداة للهيمنة، ويحول الحق إلى امتياز سلطوي، والمواطن إلى هدف تحت المراقبة وهو ما حصل مع عميد البياطرة التونسيين لما أجرى حوارا صحفيا نشر بجريدة ورقية حول مشكلة التوكيل الصحي، فوجد نفسه محل تتبع قضائي على معنى المرسوم في إطار قضية كان قد رفعها ضده وزير الفلاحة.
وفي هذا الإطار يجسد المرسوم 54 إشكالية عميقة تتعلق بالتناقض بين الشرعية القانونية والشرعية الديمقراطية والتي تنعكس في الشرخ الواضح بين شرعية النص ذاته باعتباره وثيقة قانونية صادرة عن السلطة وملزمة حسب الأطر القانونية وشرعية الإرادة الشعبية المتمثلة في الشرعية الديمقراطية التي تقتضي أن تكون القوانين انعكاسا لإرادة المواطنين ونتيجة توافقا عاما داخل المجتمع يتم تبنيه من خلال آليات ديمقراطية مثل الانتخابات أو النقاش العام.
بداية، يستند المرسوم إلى الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية والذي يمنح رئيس الجمهورية صلاحية الحكم بمراسيم استثنائية، إلا أن إصداره في الفترة الفاصلة بين حل المجلس التشريعي المنتخب على قاعدة دستور 2014 وتكوين المجلس الجديد على ضوء دستور 2022 أفرغه من مضمونه الدستوري، إذ تحول من تدبير استثنائي مؤقت إلى نهج للحكم دون رقابة تشريعية فعلية. وبينما يبدو هذا النص قانونيا من الناحية الشكلية، من حيث استيفائه للإجراءات الدستورية الشكلية، إلا أنه يتناقض مع روح الدستور الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلط والتوازن بينها، حيث يفترض أن تكون سلطة التشريع بيد البرلمان باعتباره المؤسسة التي تمثل الشعب وتعبر عن إرادته.
وبهذا، وبدلا من أن يكون هذا المرسوم وسيلة لتنظيم الفضاء الرقمي بما يحفظ التوازن بين الحرية والمسؤولية أصبح أداة بيد السلطة التنفيذية للسيطرة على المحتوى الرقمي ونموذجا صارخا يشهد على كيفية استخدام القوانين لضمان استمرارية السلطة التنفيذية وتعزيز صلاحياتها على حساب المؤسسات المنتخبة، ما يؤدي إلى تحول الدولة إلى كيان أحادي القرار، بعيدا عن أي شكل من أشكال الرقابة المؤسسية أو التشاركية السياسية، ما يثير مخاوف جدية حول استخدامه كوسيلة لتكميم الأفواه وإسكات المعارضين.ات ولملاحقة الصحفيين.ات على خلفية منشورات وتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي على غرار الحكم على نصر الدين حليمي بالسجن سبع سنوات بموجب قانون الجرائم الإلكترونية وقانون القضاء العسكري التونسي بسبب منشورات على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، تنتقد الرئيس والجيش، لتخفف العقوبة فيما بعد.
المفارقة الدولية: بين التزامات تونس وواقع الحقوق
منذ انضمامها إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التزمت تونس باحترام حرية التعبير وفق معايير تحفظ التوازن بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة، حيث تشدد المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن أي تقييد لهذه الحرية يجب أن يستند إلى نص قانوني واضح يحدد ضوابطه بدقة ليمنع التأويلات التعسفية، وأن يكون مبررا بضرورة حماية أمن المجتمع أو نظامه العام، وأن يتناسب مع حجم التهديد المزعوم دون تحويله إلى أداة تكمم الأفواه. لكن وعلى الرغم من تبني مبدأي الضرورة والتناسب دستوريا لضبط حدود التقييد من الحريات سواء عبر الفصل 49 من دستور 2014 أو الفصل 55 من دستور 2022، فإن الواقع التونسي بعد إصدار المرسوم 54، يكشف عن تناقضا صارخا بين الخطاب الحقوقي الدولي والممارسة المحلية، فبدلا من ترسيخ مبادئ الشفافية والمحاسبة، صارت مفاهيم مطاطية مثل الأمن العام أو حقوق الغير أشبه بأقنعة تخفي تحتها وجها قبيحا للقمع، حيث يحاكم النقد كجريمة، ويكافأ الصمت كفضيلة، في تحول يعيد إنتاج منطق الأنظمة الاستبدادية التي تختزل القانون في خدمة السلطة، لا في حماية الحريات. وهكذا، يتحول الالتزام الدولي إلى حبر على ورق، بينما تختزل الديمقراطية إلى واجهة تخفي آليات قمع حديثة، تتنكر بزي الحماية القانونية لتصادر الحق في الكلمة الحرة وتسجن الناس ظلما فقط لأنهم تجرأوا على قول: “الملك عارٍ!” . وفي هذا الاطار تتالت الانتقادات الدولية للممارسات القمعية التي ينتهجها النظام من خلال المرسوم 54، والتي تهدد بخسارة تونس لمكانتها كنموذج ديمقراطي في المنطقة وهو ما قد يؤدي إلى عواقب اقتصادية وسياسية جسيمة بما في ذلك الدعم الدولي .
ان المرسوم عدد 54 لا يكتفي بانتهاك القانون الدولي فقط، بل يطعن في شرعية الثورة ذاتها. فكيف لثورة نادت بالكرامة أن تتحول إلى نظام يكره مواطنيه في صمتهم؟ .
لربما هو انتصار مؤقت للخوف، لكن التاريخ علمنا وبرهن لنا أن الكلمة الحرة كالنهر قد تسد مجاريها، لكنها ستفيض عاتية ذات يوم حاملة معها سرديات السلطة الكاذبة إلى مزبلة التاريخ.
كيف ينتهك المرسوم 54 هذه المبادئ؟
جاءت عبارة الرئيس قيس سعيد “الحرية لا تعني الفوضى والتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي” خلال خطاب علني في شهر سبتمبر 2022، تزامنا مع إصدار المرسوم عدد 54، وتحولت إلى شعار تكرره السلطة في سعيها لخلق عدو داخلي تلقي عليه وزر فشلها في ظل أزمات اقتصادية وسياسية متفاقمة. خلال لعبة السلطوية المعقدة هذه، تحولت الكلمات إلى سيوف توجه نحو رقاب المختلفين.ات، اذ شكلت السلطة من مفهوم الفوضى سحرا مزدوجا: فهي تختزله في قالب فضفاض يبتلع أي صوت ناقد، ثم تحوله إلى فزاعة تلوح بها في وجه المجتمع. فحرية التعبير التي يفترض أن تكون دماء جديدة في شرايين الديمقراطية تصبغ بصبغة التخريب والتآمر وتهديد الأمن القومي، كما لا تكتفي السلطة بإعادة تعريف الفوضى، بل تعيد تشكيل الوعي الجمعي حولها؛ فما يقدم على منصة ما كتحليل لسوء إدارة الشأن الاقتصادي، أو كشف عن شبهات فساد يختزل في تقارير أمنية تحت عنوان تهديد الأمن العام على غرار توجيه مكتب التحقيق عدد 10 تهم تتعلق باستعمال أنظمة معلومات واتصال لنشر أخبار كاذبة ونسبة أمور غير حقيقيّة بهدف الإضرار بالأمن العام والتشهير بالغير والتحريض عليه وكان المستهدف منه موظفا عموميا طبق الفصل 24 من المرسوم عدد 54 إلى الإعلامية والمحامية سنية الدهماني.
هذا الانزياح الدلالي ليس بريئا بل هو استراتيجية محكمة لـتجيير اللغة وتحويلها إلى سجن افتراضي عبر ربط الحرية بالفوضى. فكلمة فوضى تتحول من مفهوم فلسفي مرتبط بغياب النظام، إلى سلاح لإسكات الصحفي الذي يكتب عن ارتفاع الأسعار، أو المحامي الذي يطالب بمحاسبة الفاسدين. وبالتالي فإن الخطاب الأمني في تونس الهادف لاحتواء الفوضى لم يعد مجرد وسيلة لضمان الاستقرار المجتمعي، بل تحول إلى أداة سياسية تستخدم لإعادة تشكيل المشهد العام بما يخدم مصالح السلطة التي لا تعلن رفضها صراحة للحريات بل تختلق أعداء وهميين لتبرير انتهاكها، وكأنها تقول: “نحن ندافع عنكم حتى من أنفسكم!”، عندها يصبح من السهل شيطنة كل تعبير ناقد أو معارض عبر وصفه بأنه تهديد لاستقرار الدولة ولوحدة الوطن، ناهيك عن تشويه المعارضة، واتهامها بتعطيل جهود الدولة أو خدمة أجندات خارجية، دون تقديم أي أدلة ملموسة على هذه الادعاءات.
النتيجة الحتمية لهذا الخطاب ليست فقط اعتقالات أو محاكمات، بل تشريع الخوف في اللاوعي الجمعي؛ فالصحفي سيتردد قبل نشر تحقيق ما، والمثقف الذي كان ينتقد السياسات سيفضل الصمت خشية أن تلصق به تهمة تأجيج الفوضى!. هنا، تنجح السلطة في تحويل المجتمع من رقيب إلى رهينة، عبر تحطيم الثقة في قيمة الكلمة نفسها وتبرير ذلك بالقول إنه لا بد من التضحية ببعض الحريات لإنقاذ الوطن من الانهيار. لكن التاريخ يؤكد أن الأوطان لا تبنى على جدران السجون ولا تحمى بقوانين تجرم الرأي، الأوطان تبنى بحرية مواطنيها، لا بخوفهم، كما قال المفكر التونسي ابن خلدون: “الظلم مؤذن بخراب العمران”، واليوم، الخراب الحقيقي هو تفكك العقد الاجتماعي بين الشعب والدولة.
في هذا السياق، نظن أن السؤال المركزي هنا يتمحور حول كيفية تحول مؤسسات يفترض أن تحمي الحريات إلى أدوات لقمعها؟ وكيف استطاعت السلطة اختراق الفضاء الرقمي الذي كان يعتبر ملاذا للحرية لفرض رقابة شاملة؟ الإجابة تكمن في تشريح آليات تنفيذ المرسوم 54، التي تكشف أن القمع لم يعد يحتاج إلى غرف تعذيب، بل إلى شاشات حواسيب وبنود قانونية مطاطية تحول الحقيقة إلى جريمة، والمواطن إلى سجين افتراضي.
تشريع فضفاض يحول الرأي إلى جريمة
يُعد الفصل 24 من المرسوم 54 أحد أكثر الفصول إثارة للجدل، نظرا لما يحمله من تهديد مباشر لحرية التعبير والصحافة، إذ يستعمل صياغة فضفاضة تورب الباب أمام إشكالات قانونية عديدة، فغياب التعريفات الدقيقة لمصطلحات مثل أخبار كاذبة، وثائق مزورة، أو الإضرار بالأمن العام يفتح المجال أمام التأويلات الواسعة.
أولا: إشكالية تعريف “الأخبار الزائفة”
في غياب معيار قانوني واضح وموضوعي، يظل تحديد ما هو “خبر زائف” خاضعا لتقدير السلطة التنفيذية، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان ذلك يشمل الأخبار التي يتبين لاحقا عدم دقتها أم يمتد إلى التأويلات والتحليلات الشخصية. اضافة إلى صفة من يملك سلطة هذا التحديد، لا سيما عندما تكون الجهات التي تحدد صحة الخبر هي نفسها الجهات المستهدفة بالنقد. فمن يضمن أن التحقيقات الصحفية حول الفساد، أو نقد السياسات العمومية لن تعتبر أخبارا كاذبة وتخضع للعقوبات المشددة؟ حيث أن العديد من القضايا التي رفعت بموجب هذا الفصل استهدفت صحفيين.ات وناشطين.ات لمجرد أنهم كشفوا معلومات أو قدموا تحليلات لم ترق للسلطات، دون وجود أدلة موضوعية على تعمدهم نشر أخبار مضللة على غرار خضوع المحامية والإعلامية التونسية سنية الدهماني، للتتبع في أكثر من قضية على خلفية تصريحاتها التلفزيونية في علاقة بتحليل الأخبار ونقد السياسات العمومية لا سيما فيما يتعلق بقضايا الهجرة من دول جنوب الصحراء، بالإضافة إلى آرائها حول المنظومة السجنية التونسية ومكامن ضعفها
هذا الغموض في المصطلحات يجعل من السهل استغلال النص وتأويله بطرق متعددة مما يسمح بتوظيفه ضد الصحفيين.ات والنشطاء والمدونين.ات، خاصة أولئك الذين ينتقدون السياسات العمومية أو يكشفون عن تجاوزات السلطة، مما يعزز مناخ الرقابة الذاتية ويحد من حرية الصحافة والتعبير في الفضاء الرقمي.
ثانيًا: مفاهيم غامضة توظف كذريعة لتكميم الأفواه
يشمل الفصل 24 عقوبات تتعلق باستخدام البيانات الشخصية للإضرار بسمعة الأفراد، وهو مبدأ مهم لحماية الحياة الخاصة، لكنه قد يستخدم أيضا كأداة لمنع الصحافة الاستقصائية من نشر معلومات عن الشخصيات العامة. كما أن استخدام مصطلح الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام[1] دون تحديد دقيق للمعنى المقصود يعزز المخاوف من تطبيقه بشكل انتقائي، فعدم توضيح ماهية حقوق الغير المراد حمايتها يطرح تساؤلات حول ما إذا كان يشمل فقط الحق في حماية السمعة من التشويه أم يمتد ليشمل النقد الموجه للشخصيات العامة، فالصحفيون.ات الذين يكشفون عن شبهة إثراء غير مشروع أو تضارب مصالح تتطلب نشر ممتلكات مسؤولين حكوميين قد يجدون أنفسهم متهمين بالتشهير، رغم أن دور الصحافة في المجتمعات الديمقراطية يقتضي مساءلة المسؤولين وتمكين المواطنين.ات من الوصول إلى المعلومة بكل حرية وشفافية. أما النظام العام، فهو مصطلح يستخدم غالبا في القوانين ذات الطابع القمعي كذريعة لقمع الاحتجاجات والتضييق على المعارضين.ات. وعليه فإن غياب معايير واضحة لتحديد مجال تطبيق المرسوم يسمح باستخدام هذه العقوبات بشكل انتقائي، حيث يمكن أن تطبق بصرامة على المعارضين، بينما يتسامح مع الأخبار المضللة التي تخدم السلطة. وهو ما يذكرنا بمقولة الفيلسوف جورج أورويل: “الكل متساوون، لكن بعضهم أكثر تساويا”.
فالمرسوم رغم ادعائه الحياد والشمولية يخدم سلطة تحصّن نفسها من النقد والمحاسبة، بينما تجرم كل من يجرؤ على كشف تجاوزاتها أو ينتقدها وهو ما شهدناه بملاحقة الكاتب العام للجامعة العامة للنقل التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل وجيه الزيدي من قبل وزارة النقل على خلفية تعليقات أدلى بها على إذاعة ديوان إف إم في جانفي 2023 انتقد فيها اهتراء معدات شركة نقل تونس وتدهور أداء وزارة النقل.
أما فيما يتعلق بالتحريض على العنف وخطاب الكراهية، فرغم كونهما جرائم تستوجب العقاب، إلا أن الإشكال يكمن في غياب تعريف واضح لماهية الفرق بين التحريض المباشر والتعبير الحاد عن الرأي. في ظل هذا الغموض، يمكن استغلال القانون لمعاقبة الخطاب النقدي ضد الحكومة أو الشخصيات العامة، حتى لو لم يكن هناك دعوة صريحة للعنف، مما يتناقض مع المبادئ الديمقراطية التي تحمي حرية التعبير طالما أنها لا تؤدي بشكل مباشر إلى أعمال عنف.
المرونة الإجرائية: توظيف الرقابة لخنق المعارضة
يفرض المرسوم 54 قيودا صارمة على الخصوصية الرقمية، في تناقض مع المعايير الدولية، خصوصا مبادئ اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) المعتمدة في الاتحاد الأوروبي، والتي تفرض قيودا جدية على جمع البيانات الشخصية. حيث يلزم الفصل السادس منه مزودي خدمات الاتصالات بحفظ بيانات المستخدمين لمدة لا تقل عن سنتين، بما يشمل بيانات الهوية، سجل الاتصالات، والموقع الجغرافي وهو ما يعد شكلا من أشكال المراقبة التي تسمح بجمع معلومات حساسة عن الأفراد دون رقابة كافية على سير العملية، مما قد يؤدي إلى إساءة استخدامها لأغراض سياسية أو قمعية في ظل غياب ضمانات متعلقة بتخزين البيانات لحماية الحقوق الفردية. أما الفصل العاشر، فيمنح السلطات صلاحية اعتراض الاتصالات والتنصت عليها استنادا إلى قرار من وكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق. ورغم أن هذا الإجراء يبرر بمكافحة الجرائم الإلكترونية، إلا أن غياب الضوابط الواضحة والموضوعية يجعله سلاحا ذا حدين. فمن الناحية القانونية، يفترض أن يكون التنصت وسية استثنائية تستخدم فقط في حالات محددة تتعلق بالجرائم الخطيرة، لكن الصياغة الفضفاضة للفصل 10 تسمح باستخدامه على نطاق أوسع، مما قد يؤدي إلى استهداف المعارضين.ات السياسيين.ات، الصحفيين.ات، وحتى المواطنين.ات العاديين الذين يعبرون عن آرائهم عبر الإنترنت. ولعل أبرز مثال على هذه الممارسات هو إدانة الصحفي خليفة القاسمي في مناسبة أولى بالسجن لمدة عام لرفضه الكشف عن مصادره، ثم تمديد الحكم إلى خمس سنوات في طور الاستئناف على خلفية اتهامه بـ “إفشاء معلومات”.
وبالتالي يتحول هاذان الفصلان إلى أداة خطيرة تقوض الحق في الخصوصية وتحد من حرية الأفراد في التعبير دون خوف من التتبعات، ما يؤدي إلى خلق بيئة من الرقابة الذاتية، حيث يصبح أي رأي مخالف عرضة للملاحقة كما يفتح الباب أمام الاستخدام التعسفي للبيانات الشخصية في توريط المعارضين في قضايا ملفقة، وهو أسلوب يعيد للأذهان ممارسات الأنظمة السلطوية التي توظف التكنولوجيا لضبط المجال العام.
عقوبات غير متناسبة: انتقام مقنّع بالقانون
في ظل هذا المرسوم، يستبطن الفصل 24 منه مفارقة مقنعة، فبينما يعاقب مرتكب جريمة السرقة أو المختلس حسب الفصل 263 من المجلة الجزائية بالسجن لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات، وبخطية مالية من 120 دينارا إلى 1200 دينار، فقد يواجه ناشط نشر منشورا على فيسبوك بالسجن 5 أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار! المفارقة أن الشخص الذي يسرق لقمة عيش مواطن يعاقب بنفس عقوبة مواطن يسرق الصمت بالكلمة..
ان فرض عقوبات مشددة يعكس منحى زجريا صارما يتجاوز مبدأ التناسب بين الجريمة والعقاب حيث أنه في الأنظمة الديمقراطية، عادة ما تفرض غرامات مالية معتدلة أو تتخذ إجراءات تصحيحية ضد نشر الأخبار الزائفة، خاصة إذا لم يترتب عليها ضرر جسيم. إن هذا التصعيد القانوني ليس إلا إعادة إنتاج لنهج استبدادي بأدوات جديدة، حيث يستخدم القانون لا لتحقيق العدالة، بل كأداة للترهيب والانتقام وهو ما يخلق مناخا من الخوف والرقابة الذاتية، خاصة بين الصحفيين.ات والناشطين.ات الذين قد يمتنعون عن تغطية قضايا وأخبار معينة خوفا من الملاحقة القضائية ويؤدي هذا إلى تآكل المساحة المتاحة للنقد والمساءلة مما يقوض الدور الأساسي للإعلام في المجتمعات الديمقراطية وهو ما أصبح واقعا معاشا في مشهد إعلامي مغيب يهيمن عليه “المفسرون” والموالون للنظام ويقصى منه كل معارض.ة وكل صوت ناقد في غياب شبه كلي للبرامج السياسية التي عهدناها طيلة ما يعرف ب “العشرية السوداء”.
الأخطر من ذلك، أن الفصل 24 يشدد العقوبات عندما يكون المستهدف موظفا عموميا، وهو ما يكرس حماية مفرطة للمسؤولين على حساب مبدأ المساءلة. فكل من تسول له نفسه أن يكشف عن تجاوزات أجهزة الدولة يصبح عرضة لعقوبات مضاعفة، مما يعزز سياسة الإفلات من العقاب ويكرس طبقة محصنة من المساءلة المجتمعية، ولعل القضية التي أثارتها وزيرة العدل ليلى جفال سنة 2023 ضد الأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي أبرز مثال، حيث اتهمته فيها بـ “نشر أخبار زائفة بغاية الإضرار بالأمن العام من خلال وسائل الإعلام السمعي البصري” و “نسبة أمور غير صحيحة إلى موظف عمومي” استنادا إلى مقابلات إعلامية أجراها سنة 2022 عبر خلالها عن موقفه من الانتهاكات التي تقترفها وزارة العدل واعتباره للقضايا المثارة ضد شخصيات من المعارضة والقضاة المعفيين ملفقة.
هذا التمييز القانوني يعكس حماية مفرطة للنخبة الحاكمة، في الوقت الذي نتحدث فيه عن مفاهيم كالصحفي-المواطن وننادي فيه بضرورة القطع مع النفوذ السياسي وسلطة الفساد، يأتي المرسوم54 ليعاقب المواطن الذين ينشر معلومات عن فساد مسؤول أو عون عمومي بعقوبات أكثر قسوة من تلك التي قد يتعرض لها المسؤول أو العون نفسه في حال ثبتت إدانته. هذه السياسة لا تعكس التزاما بالشفافية، بل تحول النقد إلى جريمة بدلا من تشجيع الصحافة الاستقصائية والمواطنين.ات على كشف الفساد والمشاركة في مساءلة ممثليهم. المفارقة أن النظام نفسه يرفع شعار محاربة الفساد، لكنه يحول كل من يكشفه إلى سجين في زنزانة الفصل 24، وكأنما يقول “الفساد حقيقتنا، ومن يعترض عليه خائن لوطنه!”..
ثلاثية القمع، وجه واحد للاستبداد
ان الخطير في المرسوم 54 ليس فقط انتهاكه للدستور وللمواثيق الدولية وتهديده لسلامة المعارضين.ات الجسدية، بل قدرته على تكريس الاستبداد عبر آليات قانونية تحول الدولة إلى كيان يراقب، يعاقب، ويخنق الأصوات المعارضة. فمن خلال أدوات قانونية فضفاضة، يعيد هذا المرسوم صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع، حيث لا يصبح الأمن الرقمي أداة لحماية المواطنين، بل وسيلة لإحكام قبضة محاكم التفتيش التي تدعم بالخطاب الأمني للسلطة في مقايضتها الحرية بالأمن وتبرير كل انتهاك بضرورة الحفاظ على الأمن العام ودرء الفوضى، لكن يتناسى مشرع الدستور أن الفوضى ليست في احتجاج يطالب بالخبز، بل في قانون يحرم الجوعى من الصراخ، وليست في نقد يفضح الفساد، بل في إعلام يستغبي عقول المواطنين.ات. فالخطاب الأمني بهذا المعنى هو الفوضى بعينها، لأنه يبدد القيم التي تقوم عليها الدولة الحديثة: الشفافية، المحاسبة، والحوار. بتنا نعدد ضحايا المرسوم يوما بعد يوم بالعشرات ثم بالمئات، ولم يسلم أحد، حتى المنصات الرقمية، التي كانت تعتبر فضاء للتحرر، صارت تذكرنا بالبلطجية الافتراضيين الذين يضربون الأقلام بدل الأجساد.
القضاء: شريك في القمع أم ضحية للاستقطاب؟
لطالما مثل القضاء التونسي منذ ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي 2011 ركيزة أساسية لضمان التحول الديمقراطي الناشئ، اذ انتقل من مجرد أداة في يد النظام السابق إلى حارس للدستور وضامنا لحقوق المواطنين.ات. لكن مع موجة الاجراءات الاستثنائية التي افتتحت بوضع 45 قاضيا قيد الإقامة الجبرية دون سابق إنذار أو موافقة من المجلس الأعلى للقضاء، ثم حل المجلس الأعلى للقضاء، بمقتضى المرسوم عدد 11 لسنة 2022، وهو الهيئة الدستورية المسؤولة عن تعيين القضاة وضمان استقلاليتهم بحجة وجود فساد في الهيئة وعدم التزامها بواجباتها، ثم وبصدور دستور 2022 الذي قسم الوظيفة القضائية إلى ثلاثة مجالس: عدلي وإداري ومالي، وحول القضاء من “سلطة” إلى “وظيفة”، إضافة إلى تفتيت الصبغة الوحدوية للمجلس الأعلى للقضاء واخراج الضوابط المتعلقة بتركيبته وباختصاصاته من المجال الدستوري إلى مجال القوانين، دون ضمان استقلاليته كهيكل يحافظ على وحدة القضاء، وبالتالي أصبح يتكون المجلس من قضاة مباشرين وآخرين متقاعدون تتم تسميتهم حسب الأقدمية باختيار حر من الرئيس وبأمر منه ويؤدون اليمين أمامه وتكون من مهامه أن يرفع إلى رئيس الجمهورية تقريرا عن سير أعماله كل 3 أشهر. كما للرئيس الحق في الاعتراض على تسمية أو ترقية أو نقل أيّ قاض بناء على تقارير معللة، ويتدخل ايضا في المسارات التأديبية من خلال طلب إعفاء أي قاض يخل بواجباته المهنية وهو ما من شأنه أن يفقد المجالس استقلاليتها وحيادها ويجعلها أداة طيّعة في يد الوظيفة التنفيذية المهيمنة على التعيينات والإعفاءات دون أن يكون للمجلس أي دور رقابي يذكر عليها.
هذا المسار “التطهيري” تدعم بإقالات واعفاءات تعسفية طالت ما لا يقل عن 57 قاضيا خلال شهري فيفري وديسمبر 2023، عبر مرسوم رئاسي دون تحديد معايير واضحة أو أدلة ملموسة على التهم التي ألصقت بهم وهو قرار تم نقضه لصالح 49 قاضيا من قبل المحكمة الادارية بتاريخ 10 اوت 2022 دون أن يرى تنفيذه النور إلى حد اليوم بسبب رفض الحكومة ووزيرة العدل ليلى جفال تنفيذ القرار القاضي بإعادة القضاة إلى مناصبهم، كما شاهدنا مراسم محاكمات أخلاقوية ضد القاضيات تطعن في شرفهن خلال مواعيد رسمية لرئيس الجمهورية في مشهد يعكس محاولة السلطة التنفيذية إذلال القضاة والسيطرة على إحدى أهم ركائز الدولة.
هذه التدخلات لم تقتصر على الإقالات المباشرة، بل امتدت إلى ضغوط معنوية وتضييقات إدارية، دفعت العديد من القضاة إلى التردد في إصدار أحكام تبرئ الصحفيين.ات والنشطاء.ات خوفا من الانتقام الوظيفي أو الوصم، خاصة بعد تصريح رئيس الجمهورية متوجها للقضاة بأن ” كل من يبرئهم فهو شريك لهم”، وإثارة عديد القضايا الجزائية ضد القضاة على غرار القاضي لدى التعقيب، حمادي الرحماني المتهم على قاعدة الفصل 67 من المجلة الجزائية المتعلق بارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية بسبب منشور على موقع فايسبوك يتهم فيه قيس سعيد بارتكاب “انقلاب” يوم 25 جويلية 2021، وبالتالي تحول القضاة الذين رفضوا الانصياع لإجراءات الرئيسس إلى أهداف مباشرة لسياسة “التطهير القضائي”، في إطار مسار منهجي لتحويل القضاء إلى أداة طيعة.
فبات القضاة يواجهون خيارات حرجة: هل يطبقون قوانين تستخدم كأداة للترهيب، أم يخاطرون بمناصبهم ومصيرهم المهني؟ . نتيجة لذلك، لم يعد القضاء مجرد منفذ لسياسات السلطة، بل أصبح رهينة استقطاب سياسي خطير، لا يهدد نزاهته فقط، بل أيضا ثقة المواطن في عدالة المؤسسات، حيث يشهد القضاء انتقائية في الملاحقات، من خلال تحريك الملفات ضد المعارضين.ات بسرعة قياسية، بينما تركن القضايا المرتبطة بالموالين أو المتعلقة بالانتهاكات الأمنية دون متابعة جدية. هذه المفارقة تعكس استغلال القضاء كأداة لتصفية الحسابات السياسية، بدلا من كونه سلطة مستقلة تحقق العدالة اذ شهدنا احكاما قاسية ضد كل صوت معارض، مثال ملاحقة كل من الاعلامي مراد الزغيدي وبرهان بسيس على معنى الفصل 24 من المرسوم عدد 54 والحكم عليهما بالسجن لمدة عام، ثم تم التخفيف من العقوبة استئنافيا لتصبح ثمانية أشهر.
في بيئة كهذه، تفقد المحاكم مصداقيتها، ويصبح مفهوم سيادة القانون، مجرد غطاء لإضفاء شرعية شكلية على ممارسات قمعية، خاصة في ظل غياب المحكمة الدستورية الضامن الأساسي لمراقبة القوانين وضمان عدم تعارضها مع الحقوق الأساسية. هذا الغياب منح السلطة التنفيذية اليد الطولى في فرض تشريعات دون رقابة قضائية حقيقية.
ثم بينما يحول القضاء المسيس القانون إلى أداة لشرعنة الانتهاكات عبر تفسيرات تعسفية لمصطلحات فضفاضة، يلعب الإعلام الممأسس دور المطهر الذي يبيض صورة السلطة ويشوه خصومها، محولا الحقائق إلى “إشاعات” والأصوات الناقدة إلى “أعداء للوطن”. هذه الآلية ليست مجرد اعتداء على حرية التعبير، بل هي تفكيك ممنهج لأسس الديمقراطية، تحول تونس إلى ساحة “الخوف المقدس”، حيث ترفع السلطة إلى مرتبة التابو، بينما تدفن الحقيقة تحت ركام الاتهامات.
سياسة تعبئة “البياص” وتعميم “الآريا” – سياسة تعميم القضايا وتعبئة السجون
أحمد بهاء حمادة طالب الحقوق والمدون، الصحفي خليفة القاسمي، المحامي غازي الشواشي، الصحفي زياد الهاني، المحامي العياشي الهمامي، الاعلامية والمحامية سنية الدهماني، المحامية اسلام حمزة، الصحفية منية العرفاوي، السياسية شيماء عيسى، المتقاعد سليمان الرويسي، الصحفي نزار بهلول، السياسية مريم ساسي، عميد البياطرة أحمد رجب .. تتعدد الأسماء والنمط واحد; القمع .
اثارة القضايا ضد هذه الشخصيات ليست مجرد حوادث معزولة، بل مشهد متكرر ومستمر من مسرحية القمع التي تخرجها السلطة ضد كل صوت حر يحاول رفع راية الحقيقة، لكن السلطة ترفض أن تكون مرآة للشعب بل تفضل تحطيم كل مرآة تعكس عوراتها. ان هذا التوسع في دائرة القمع يظهر أن الهدف ليس “مكافحة الأخبار الزائفة”، بل إسكات المجتمع بأسره، وتفريغ الثورة من مضمونها عبر إعادة إنتاج الخوف كآلية حكم.
في خضم هذا المشهد، تبرز أسئلة حرجة: أي عدالة هذه التي تحول النقد إلى جريمة، والقضاء إلى سجان؟ وأي شرعية تتباهى بها سلطة تعيد إنتاج أدوات القمع القديمة بآليات جديدة؟ ان الاعتقالات بموجب المرسوم 54 ليست مجرد انتهاك للحريات، بل ناقوس خطر يدق.
اذ تؤكد النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أن عدد القضايا التي رفعت ضد الصحفيين.ات بسبب عملهم قد بلغت أكثر من 39 قضية ، تعتبر وضعية الاعلامية والمحامية سنية الدهماني أبرزها خاصة وأنه في رصيدها خمس قضايا، جميعها على معنى الفصل 24 من المرسوم 54. وتعود وقائع القضية الأولى إلى شهر نوفمبر من سنة 2023 حين انتقدت الاعلامية والمعلقة في برنامج إذاعي الوضع داخل المؤسسات السجنية مشيرة إلى حرمان المساجين من حق العلاج، ومنع بعض العائلات من ممارسة حق الزيارة اضافة لعدم توفر الماء الصالح للشراب. لتقوم وزيرة العدل ليلى جفال بإثارة تتبع جزائي ضدها على خلفية هذه الانتقادات بتهمة نشر أخبار زائفة. كما حكم عليها في قضية “هايلة البلاد ” بالسجن لمدة ثمانية أشهر بسبب انتقادها للتعامل الأمني والسياسي الرسمي مع قضية المهاجرين من جنوب الصحراء بقولها إن تونس ليست مكانا يطيب فيه العيش، اضافة إلى الحكم عليها ابتدائيا واستئنافيا بالسجن لمدة عامين اثنين بخصوص تصريح إعلامي أدلت به في علاقة بملف المهاجرين الأفارقة بتونس، وهو قرار تم نقضه من قبل الدائرة الجزائية 29 لدى محكمة التعقيب بتاريخ 03 فيفري 202، التي اعتبرت أن المرسوم عدد 54 لسنة 2022 يشكل قيدا على الحرية ولا يجب التوسع في تطبيقه. كما وأوضحت المحكمة أن الهدف من المرسوم هو سد فراغ تشريعي في تتبع الجرائم المرتبطة بأنظمة المعلومات والاتصال، وجمع الأدلة الإلكترونية، وتعزيز التعاون الدولي في هذا المجال. كما شددت على ضرورة التزام السلطات العمومية عند تطبيقه بالضمانات الدستورية والاتفاقيات الدولية في مجالي حقوق الإنسان وحماية المعطيات الشخصية.
نهاية إن المرسوم 54 ليس مجرد قانون سيء، بل هو أداة إبستيمولوجية تعيد تعريف مفاهيم مثل “الأمن العام” و”حماية الغير” لخدمة السلطة التي لا تمارس القمع اعتباطيا وانما تعمل جاهدة على إعادة تشكيل الوعي ليقبل المواطن.ة أن رسالته على واتساب قد تكون قيدا في يد النيابة العمومية.
هذا الوضع لا يهدد الأفراد فحسب، بل يقتل روح الثورة التي نادت ب “حرية، كرامة، عدالة اجتماعية”، ليحل محلها شعار جديد: “خوف، مراقبة، قمع” .